مقال الرأي في الإرث محمد نجيب البقاش ترددت كثيرا قبل كتابة هذا الموضوع، لكن صورة تلك السيدة الاربعينية التي زارتني يوما بمكتبي بقسم قضاء الاسرة بالمحكمة الابتدائية بالقصر الكبير، لم تشأ أن تغادر ذاكرتي قط رغم مرور سنوات كثيرة. وحتى أكون صريحا، فهي من دفعتني دفعا للتجرؤ على إبداء موقفي من هذا الموضوع الشائك وإن جاء ذلك متأخرا.كانت عشية باردة وممطرة من شتاء سنة 2006 عندما استأذنتني هذه المرأة بخجل شديد للدخول هي وابنتها. كانت علامات الحزن والاسى بادية على محياهما كأنها تعكس صورة السماء المتجهمة الذي أظهرته في ذلك النهار الكئيب. من لباس الفتاة ومظهرها العام، أدركت أنها لم تتجاوز الخامسة عشر من عمرها وأنها لا زالت تلميذة ترتاد الإعدادية أوالثانوية على أبعد تقدير. أشرت اليهما بالجلوس، ثم استفسرت السيدة عن سبب زيارتها. أجابتني، بعد أن أطلقت تنهيدة عميقة، أن زوجها توفي قبل ستة أشهر وأنه ترك ما يورث عنه شرعا منزلا متواضعا مساحته لا تتعدى الستين مترا، مكونا من غرفتين صغيرتين ومطبخ وصالون بالكاد يكفيهما معا، غير انها فوجئت بإخوة زوجها الذكور في الآونة الاخيرة يخبرونها بأنهم يعتزمون رفع دعوى قسمة هذا المنزل لاستيفاء نصيبهم الشرعي المنجر لهم إرثا من أخيهم الهالك. احتجت المرأة يكون المسكن الصغير هو بالكاد يأويها رفقة ابنتها وأنه من المستحيل ان تقبل ان يساكنها احد اخر.صمتت للحظة ثم اوضحت لها بأن نصيبها فيه حسب الشريعة الاسلامية المطبقة هو الثمن ونصيب ابنتها هو النصف فيما الباقي يعود لإخوة زوجها، أخبرتها ان المحكمة، في مثل هذه الحالات، قد تعمد في حالة تعذر قسمته عينا، الى بيعه بالمزاد العلني واقتسام ثمنه بين جميع الورثة بحسب الأنصبة المبينة أعلاه، وفي هذه الحالة يمكنها ان تتدبر الامر وتدفع لهم حظهم الشرعي هذا نقدا وتتخلص نهائيا من جشعهم. أجابتني بأنها امرأة فقيرة معدمة لا مدخول قار لها، فبعد وفاة زوجها الذي كان يشتغل بناءا، والذي كان في حياته معيلهما الوحيد، اضطرت الى أن تشتغل كخادمة في بيوت بعض العائلات ومرة مياومة في الحقول ان اقتضى الامر، وانها بالكاد تستطيع تغطية مصاريف عيشها ودراسة ابنتها المتفوقة. سألتها عما اذا كان قد سبق لها ان استعطفت إخوة زوجها للتراجع عن موقفهم أوالتنازل لها عن نصيبهم البسيط في المنزل حفاظا على مصلحة ابنة أخيهم ومراعاة لمستقبلها وسنها الحرج، أجابتني بأنها حاولت ذلك مرات متكررة وأحيانا بتدخل من أهل الخير لكن دون جدوى، «لا يمكنك سيدي أن تتصور كيف هم غلاظ القلب، لم يكلفوا نفسهم حتى عيادة أخيهم وهوفي مرض موته» أضافت متحسرة. صمتت مرة أخرى للحظات لا أدري بما أجيبها، كيف يمكن لي ان أوضح لها ان دور المحكمة هوتطبيق القانون ولا مآل آخر لقضيتها سوى ما أخبرتها به، عندها قاطعت شرودي قائلة بنبرة يائسة وهي تقف تعتزم المغادرة : إذن لا أمل، أليس كذلك؟ هل معنى هذا أننا، بعد أن تحكموا القضية، سنذهب للشارع؟ هل معنى هذا أن شريعتنا الاسلامية التي ستحكمون بها توافق على تشريد أسرة بكاملها وترضى بتعريض مستقبل بناتها الصغار للمجهول؟ ألا يمكنكم أن تمنعوا حصول هذا؟ بالله عليك هل ترى هذا عدلا؟ كيف لي أن أغادر منزلا أقمت فيه لأكثر من عشرين سنة وأشرد بنتاي منه من أجل أن يغنم اخوة زوجي حفنة من الدراهم؟ هل تعتقد أنه في حالة بيعه سأشتري منزلا يوازيه، أنا متأكدة من أن المبلغ الذي سأحصل عليه لن يكفي حتى لشراء براكة في أطراف المدينة بعد أن يطوفني السماسرة عليها طولا وعرضا.الواقع ان حالة هذه المرأة لم تكن هي المناسبة الوحيدة التي واجهت فيها رفقة زملائي قصة مأساوية بهذا الشكل، نساء عديدات وجدن أنفسهن بعد أن فاجأ الموت أزواجهن معرضات للطرد من بيوتهن التي وقرن فيها لسنوات طوال، فقط لأنهن لم تجنبن الولد الذكر الذي سيقيهن تدخل «عصبة» الهالك أوسيؤجل، على الاقل، عملية قسمته أوبيعه مزادا الى ان يتوفاهن الأجل. صحيح أنه أحيانا تفلح هاته السيدات، ضحايا نصيبهن الضئيل في إرث أزواجهن أوآبائهن، في إقناع عصبته بتدخل ووساطة من أهل الخير وذوي النيات الحسنة، للتنازل عن حقهم في المنزل الوحيد الذي خلفه أخوهم أوابن عمهم الهالك مراعاة لظروف أرملته الاجتماعية وبناتها، وأخذا بعين الاعتبار للسنوات الطويلة من العلاقة الزوجية أو«الميثاق الغليظ»، حسبما وصفه بدقة النص القرآني، الذي جمعها بزوجها المتوفى، والذي يمتد أحيانا الى الخمسين عاما من الارتباط والمساكنة المستقرة. لكن حالة هاته السيدة كانت أكثر مأساوية واستفزازا. فبغض النظر عن تلك الحفنة من الدراهم التي في هذه الحالة، سيغنمها إخوة الزوج من بيع المنزل الى الغير والتي ستقلب بكل تأكيد الحياة المستقرة والهادئة لهذه الاسرة الضعيفة رأسا على عقب، فإن طبيعة التساؤلات التي احتجت بها هذه الأرملة كانت مختلفة عن كل الحالات المشابهة التي واجهتنا سابقا والتي كانت تجعلنا، كقضاة مطبقين للقانون، مكتوفي الايدي ومبتلعي اللسان أمام نص تشريعي وقسمة مقدسة، قرآنية المصدر، غير قابلة لأي اجتهاد بل ولا يقبل مجتمعنا الديني المحافظ أدنى مناقشة حولها. فغالبية هاته النساء، ورغم الوضعية الحرجة التي يجدن فيها أنفسهن فجأة والمستقبل الراجح تعاسته الذي ينتظرهن، يلذن بالصمت امتثالا لقدسيته الدينية الاجتماعية، لكنه في الواقع صمت يستبطن كل أنواع الآلام ويضمر جميع أشكال التحسر، فالنساء، ذلك النصف من المجتمع والذي استوصى رسولنا الكريم ص به خيرا، تأبين عادة التعبير عنه، باستثناء طبعا هذه السيدة التي من أجلها أكتب هذا المقال الذي آن أوانه والتي أتمنى أن يكون الله، بعد كل هذه السنوات التي مضت، قد فعل بها وببنتها خيرا. حقا هي تساؤلات جريئة أطلقتها المرأة من قبيل : هل ترى هذا عدلا، هل ترضى الشريعة أن تشرد أسرة ضعيفة كلها نسوة وتلقي بها الى الشارع. إنها تساؤلات تحرك في الواقع مشاعر كل ذي قلب وتستفز منطق كل ذي عقل، فهل فعلا، تساءلت مع نفسي بعد أن غادرت هذه السيدة المحبطة وبنتها مكتبي، ترضى شريعتنا الاسلامية، العقلانية والسمحة، التي بفضلها اعتناقها نحن خير أمة للناس، ان يشكل تطبيقها تهديدا حقيقيا لمستقبل هذه الاسرة وخطرا محدقا على المآل الاجتماعي لبنتها الصغيرة، كيف سيكون مصيرها بعد ان يتم بيع منزلهم مزادا وما أدراك ما تخفيه مسطرة المزاد؟ فبالنسبة لهذه الحالة، توقعت آنذاك إلا يزيد مبلغه عن 20 مليون سنتيم على أكثر تقدير حسب ما أخبرتني المرأة بمواصفاته وموقعه، ستأخذ البنت نصفه والزوجة ثمنه وهوما يكون مبلغ اثني عشر مليون ونصف، فيما سيؤول الباقي الى عصبة الزوج أي إخوته، إذن كيف سيمكنهم بهذا المبلغ الهزيل أن يقتنوا شقة أخرى تقترب على الأقل من مواصفات المنزل الذي انتزع منهم كرها. ان مبلغا من هذا القبيل كفيل فقط باقتناء غرفة متواضعة مشتركة مع الجيران في أطراف المدينة لا قريبا من وسطها كالبيت الذي كانوا مستقرين فيه منذ عشرين عاما.ثم ماذا لوكانت هذه السيدة، تساءلت مع نفسي مرة أخرى، هي أختي توفي زوجها بغتة أو لنفترض حتى أن تكون زوجتي، أكنت سأكون مرتاحا في قبري وهن يتسكعن في الشوارع بحثا عن مأوى للشراء بهذا المبلغ الواهن الذي حصلن عليه، يتعرضن خلال ذلك لطمع ونصب وكذب المخادعين وباقي الذئاب البشرية المتربصة، كيف ستكون حياتهن الجديدة في غرفة مشتركة أو داخل براكة لا تتوفر على أدنى مقومات العيش الإنساني المحترم. صحيح أن الكثير من الأسر البسيطة يعيشون على هذه الشاكلة بل ربما أفظع من ذلك، لكن أن تعيش أسرة في مستوى اقتصادي معين ثم ترد فجأة، بعد سنوات طوال، الى أرذله، فهذا التحول السلبي والتدحرج إلى أسفل لا ترضاه نفسيا جميع الطبقات الاجتماعية بما فيها التي تعيش تحت خط الفقر. كيف اذن لشريعة استوصى كتابها المقدس وأحاديث رسولها ص المتعددة بنساءها وبناتها خيرا بل وجعلت الجنة تحت أقدامها دون الرجال، أن تعرضها لخطر اجتماعي محتوم، بمجرد أن يموت أزواجها أو آباؤها، كيف يعقل أن توصف العلاقة الزوجية في القرآن الكريم ب «الميثاق الغليظ» ثم لا تلبث أن تتحول الى مأساة اجتماعية مباشرة بعد انتهاءه بوفاة الطرف الذكر، كيف نسمح بتشتيت أسرة وصفها النص القرآني بكونها «آية من آيات خلقه» لمجرد أن يتوفى ربها كما في الحالة التي بين أيدينا؟ أليس من وصايا ديننا الرفق «بالقوارير »وحسن تربيتهن في الدنيا وهن صغار على أمل الفوز بجنة النعيم في الآخرة، ألم يصف رسولنا الأعظم ص نفسه بأنه خير المؤمنين لأهله، أليس من مبادئ ومقاصد شريعتنا كذلك دفع «الضرر والضرار »عن سائر المكلفين، و«رفع الحرج والمشقة »أثناء أدائهم لشعائرهم التعبدية وامتثالهم لأوامرها وأحكامها العملية؟ أليس من مقاصدها كذلك «عدم التكليف بما لا يُطاق» ألم يعتبر بعض الفقهاء وعلى رأسهم الامام الشاطبي، المالكي المذهب، أن كل مشقة واقعة بالمكلف في التكليف تكون خارجة عن معتاد المشقات في العمال العادية ويحصل بها فساد ديني أودنيوي، فمقصود الشارع فيها الرفع على الجملة.ما الحل إذن، كيف السبيل لإنقاذ مثل هذه الاسرة الضعيفة من براثن التشرد واحتمال الفساد التي تقف على شفا حفرة منه؟ هل شريعتنا المحمدية المباركة قاصرة النظر الى هذه الدرجة أم نحن من هم قاصر والنظر والاجتهاد؟ ما الذي جعل الخليفة عمر ض يتجرأ، في زمن مبكّر، على تجاوز هذه «القسمة المقدسة» ويعطي كل ذي حق حقه اعتمادا فقط على «بصيرته العادلة» التي سمحت له بإيقاف وإلغاء العمل بالكثير من الاحكام والأوامر القرآنية الاخرى الصريحة، فيما نحن الذين نعيش اليوم في القرن الواحد والعشرين، وفي الوقت الذي نتباهى فيه أمام العالم بكوننا وقعنا على جميع الاتفاقيات الدولية التي ترفع الحيف عن المرأة، ونتفاخر على سائر الملل الاخرى بأننا الأوائل في تكريمها، لا زلنا الى حدود الساعة، نقدم خطوة ونؤخر أخرى للحسم في هذا الموضوع رغم ما تفرزه بعض قسمة الارث من أوضاع اجتماعية مزرية للمرأة غير خافية على كل ذي نظر وعقل، فالأغلبية للأسف تفضل أن تواجهها بالصمت، أما ذووالمصلحة المادية فيها فيحتجون بأنها قسمة أزلية، غير قابلة لأي اجتهاد بشري، في حين أن قسمتها الرئيسة والتي هي «للذكر مثل حظ الأنثيين» كان العمل جاريا بها في الجاهلية قبل نزول الرسالة المحمدية التي تبنت العمل بها، وهذا أمر سأوضح خلفياته لاحقا. إن احتجاج هؤلاء هنا لا يعدوأن يكون «كلمة حق يراد بها باطل» لا أقل ولا أكثر. لكن القول بمراجعة أحكام الإرث الواردة في النص القرآني بصيغة آمرة صريحة وبتقسيم واضح مفرز بين الورثة خاصة بين الذكر والأنثى، ليس بالأمر الهين، لا على مستوى إقناع المجتمع بوجوبه استنادا لتبدل أحوالنا كليا عن أحوال مجتمع عرب الجزيرة التي نزلت فيه، ولا على مستوى إيجاد سبيل فقهي نخترقه بواسطته لنضفي عليه طابع المشروعية الدينية. فنحن أمام نص واضح الصياغة، وأمام قسمة مفرزة يحلول لكثير من الفقهاء أن يطلق عليها وصف «البناء المحكم» الذي إن سقطت لبنة منه، اختل وتهاوى النظام بأكمله، ناسين بأن أحد كبار الصحابة حسبما أشرت إليه أعلاه، والذي كانت تنزل بعض آيات القرآن وفق رأيه، سبق وأن أفتى وحكم في واقعة عرضت عليه، تجاوز فيها بصورة صريحة وجريئة منطوق الآيات المحددة لأنصبة الإرث دون أن يرى في ذلك أدنى مساس بالشريعة ولا هدما لهذا البناء ولا تجريحا لهذا الدين الحنيف.فهؤلاء الفقهاء يحلولهم أيضا أن يقولوا بأن المرأة وإن كانت ترث نصف حظ الرجل وربعه وثمنه، ترث في أحوال أخرى مثله بل وأكثر منه، فلهؤلاء نقول، هذا مجرد تمويه، فالحالات التي يحبون كثيرا الحديث عنها والاحتجاج بها هي حالات لا تقع الا قليلا أو نادرا في الواقع العملي فضلا عن أنها، وفي أغلب الأحوال، لا تترتب عنها أية مضرة اجتماعية جلية للأسرة النووية التي وضعها الإسلام نصب أعينه منذ نزوله وأبدى انشغالا عظيما بها على اعتبار أنها المنطلق والقاعدة لأي إصلاح مجتمعي منشود. لذلك رأى أنه يتعين أن تكون دائما محور الحماية ومدار الوقاية باعتبارها الخلية الأولى للمجتمع فما كان منه الا أن يصفها بكونها آية من آيات خلقه. أما الحالات التي نحن بصددها والتي تجد فيها المرأة نفسها بمثابة ضحية حقيقية لوفاة زوجها أو أبيها، فيكثر حصولها في الواقع وهي فضلا عن ذلك أضحت تطرح إشكاليات ومآسي اجتماعية معقدة تشكل الحالة الواقعية التي بين أيدينا أحد نماذجها الصارخة. ثم انه من جهة أخرى، يكون التشريع من نصيب الحالات الغالبة التي يروم معالجتها ودرء الضرر والمشقة والحرج عنها، وليس للحالات القليلة الوقوع. فالشارع، على حد قول الامام الشاطبي، «اعتبر في مجاري الشرع غلبة المصلحة ولم يعتبر ندور المصلحة»، والشريعة، يضيف الامام «مبنية على الاحتياط والأخذ بالحزم والتحرز مما عسى أن يكون طريقا الى مفسدة»، كما أن عموم العبرة في أحكامها المتعلقة بالأسرة هو الحفاظ على استقرار ومصلحة هذه المؤسسة كنواة أولى للمجتمع وأساس مصيره المستقبلي، فوصفها من قبل الذكر الحكيم بأنها «آية من آياته» لم يكن مجرد مبالغة في التعبير أو ترف في القول، بل لأن احدى الغايات الكبرى للرسالة المحمدية كانت تروم من الناحية الاجتماعية تحويل المجتمع العربي من قبلي يكون الولاء فيه للقبيلة أو العشيرة الى أسري يكون الولاء فيه للعقيدة الدينية الأخلاقية، حيث الزوجان والأبناء بصورة خاصة هم مركز الاهتمام ومنطلق أي إصلاح مجتمعي، وليس العصبة من رجال القبيلة وحماتها، فلهذا السبب استأثرت الأحكام المتعلقة بالأسرة بالنصيب الأكبر من آيات الأحكام في القرآن الكريم، بل حتى الرسول ص وصف هذه المؤسسة ب«نصف الدين» من خلال حديثه «اذا تزوج العبد فقد كمل نصف الدين، فليتق الله في الشطر الثاني» وكذلك حديث «خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء»، ويقصد بالحميراء زوجته عائشة. لذلك جاءت الكثير من الأحكام المتعلقة بها والمنظمة لعلاقة الزوجين ببعضهما أو بينهما وبين الأبناء، سواء أثناء قيام العلاقة الزوجية أو انتهاءها بالوفاة او الطلاق، تصب في هذا الاتجاه، تستهدف مصلحة الأسرة النووية بشكل خاص وتروم تقوية مركزها في النسق الاجتماعي العام. ان عملية مسح بسيطة للأعراف الاجتماعية التي كانت سائدة قلب نزول الرسالة وفي إبانها والتي كانت تنظم العلاقة بين الرجل والمراة، ومقارنتها بالأحكام الأسرية الجديدة التي جاء الاسلام بها أو اقتصر على تبنيها، توضح بشكل مثير للانتباه كيف أبدت الشريعة الاسلامية منذ البداية عظيم الانشغال بهذه المؤسسة وكأنها تعقد كل آمالها وبرامجها الاصلاحية المستقبلية على هذه النواة الصغيرة وذلك باعادة صياغة العلاقات السلوكية والتربوية التي تنظمها من الداخل بشكل يكاد يكون جذريا، على أمل أن تلعب مستقبلا الدور الحضاري المنوط بها. هكذا وهي تمهد الطريق لذلك، ابتدأت بجعل المرأة، كإحدى أعمدتها الرئيسية، طرفا أصليا في عقد الزواج بعد أن كانت مجرد موضوع له بأن اشترط موافقتها الصريحة أوالضمنية، كما جعلت المهر حقا خالصا لها بعدما كان حقا لأهلها من الذكور. لنلاحظ كذلك كيف حصرت عدد الطلقات في ثلاثة بعدما كانت بلا نهاية في الجاهلية. وكيف وضعت لها حقوقا أثناء عدتها التي حددتها في مدة معينة، وحقوقا لأطفالها إن وجدوا سواء أثناءها أو بعد انقضائها وهي حقوق كانت منعدمة من قبل .لنلاحظ كذلك كيف حفظ الإسلام للجنين حقوقه في الإرث وهو لا زال في بطن أمه وكيف حفظه كذلك للطفل الصغير وحمى مال اليتيم. لندقق النظر قليلا حول الأهمية المطلقة التي أولتها الشريعة لتعليم الأطفال دون أي تمييز بين الجنسين، من خلال العديد من النصوص الدينية التي فرضت ذلك بل كادت أن تجعل اهمال تعليمهم وتدريسهم جريمة يعاقب عليها حسبما ورد في الحديث .والالتزام بالتعليم الذي حفزت عليه الرسالة المحمدية في أكثر من آية قرآنية وحديث نبوي، هو واحد من عظيم إسهامات الاسلام في الشؤون المتعلقة بمرحلة الطفولة وهذا ما دفع احد الباحثين الغربيين الى الاعتراف بأسبقية الاسلام التاريخية في اقرار مفهوم الحقوق بشكل عام والذي رغم انه «مفهوم حديث من بعض جوانبه، بيد أنه طبق سلفا في النصوص الحريصة على الأطفال وفق الأحكام الشرعية الاسلامية» الطفولة 90. لنلاحظ أيضا تشديد الإسلام على البر بالوالدين والتركيز بصورة خاصة على الأم، مع اعتبار العكس كبيرة من الكبائر تضاهي الشرك بالله. إن استفراد الأسرة النووية بجزء كبير من آيات الأحكام في القرآن يدل دلالة قاطعة على تموضعها وتمركزها كاحدى أهم المؤسسات التي ينبغي إحاطتها دائما باكبر قدر من الاهتمام، لقد بدا الإسلام هنا وكانه يريد اعطاء الانطلاقة لميلاد مجتمع جديد تكون فيه الأجيال التي ستولد مستقبلا مختلفة بشكل جد إيجابي عن سابقاتها، أجيال يتعين بالضرورة أن تولد في وسط تكون فيه أخلاق التقوى الدينية معيار السلوك الاجتماعي الأمثل، ويكون فيه الأبوان داخل أسرتهم الصغيرة، المستقرة والآمنة، بمثابة القدوة الأخلاقية التطبيقية للأطفال الذين سينجبونهم، أما التعليم أو واجب القراءة والتحصيل العلمي، الذي دشنت به الشريعة أحكامها وأوامرها الدينية العملية، فقد أنيطت به مسؤولية استكمال ما بدأه الأبوان لكن على المدى الطويل باعتبار ان طلبه يجب أن يكون من المهد الى اللحد.ثم انه فضلا عن التقسيم المفرز الذي وضعه القرآن، ظلت هناك أوضاع واقعية لم يتطرق اليها بالحل، لذلك اضطر معها الصحابة الى التدخل وايجاد تسويات ترضي الأطراف العائلية سواء كانوا عصبة أومن ذوي الفروض، نذكر هنا على سبيل المثال «المسألة المنبرية.. والمسألة الحمارية….. ؟؟؟؟ غير أنه قبل الدخول جديا في الموضوع، أود أن أشير الى استنادي عموما على نظرية الإمام الشاطبي المقاصدية التي ضمنها كتابه القيم «الموافقات في أصول الشريعة»، والتي ملخصها العام أن الشريعة مبنية على مراعاة المصالح ودرء المفاسد، فعلم مقاصد الشريعة بحسب ما فصل القول فيه إمام الأندلس، خاصة تمييزه الدقيق بين كليات الشريعة وجزئياتها التفصيلية، وهو تمييز لم يسبق اليه في تاريخ الفكر التشريعي البشري، يعد في اعتقادي المدخل الوحيد الذي يسمح اليوم بإمكانية إدخال التعديلات على نظام الارث في الاسلام حتى يمكن، على الأقل، درء المشقة ورفع الحرج عن أمثال هذه السيدة وما أكثرهن، والتي يبدو أن وضعيتها الاجتماعية الجديدة بعد قسمة إرث زوجها الهالك، ستدخلها حتما الى دائرة «التكليف بما لا يُطاق» وتضعها في ضرر جلي وفساد محتمل السقوط فيه وهوما تنهى عنه شريعتنا العقلانية السمحة نهيا مطلقا. هذا دون ان ننسى الاستشهاد أحيانا بأقوال ومواقف أئمة فقه آخرين كانوا بمثابة تمهيد فكري للقول بمقاصد الشريعة الاسلامية ونقصد بالذكر كل من ابن رشد والقرافي والجويني والغزالي وابن القيم ونجم الدين الطوفي، فهؤلاء الأئمة رضوان الله عليهم مهدوا قبل مئات من السنين الطريق الملكي لانبثاق مفهوم علم المقاصد الذي اكتمل بناؤه وصرحه مع الإمام الشاطبي والذي لم يعر نظريته الجديدة في التشريع والاجتهاد الفقهي زملاءه من فقهاء القرن الثامن الهجري ولا الذين جاؤوا بعده، فقد استمرت نظريته غير ذات ذكر في الأوساط الفقهية حتى ظهر الإمام محمد عبده الذي نبه لأهميتها المنهجية في الاجتهاد والتشريع واستنباط الأحكام الشرعية. إن التمييز المتحدث عنه بين كليات الشريعة وجزئياتها ومراعاة أسباب نزول آيات الإرث سيسمح لنا، من جهة أخرى، بفتح نقاش جدي آخر يتعلق بإقرار مساواة بين الرجال والنساء في اقتسامه، إذ لم تعد المرأة، ذلك الطرف الغير المنتج ماديا والقابع في بيته منذ قرون مضت، مثل اليوم.أصبحت هي كذلك «قوامة» على أبناءها وعلى زوجها، وأحيانا حتى على والديها وإخوتها الذكور .لنعترف أن الجميع أصبح اليوم يسهر على تربيتها وتعليمها وهي لازالت تحت كنفه كطفلة صغيرة، لأجل أن تصير كذلك، مستقلة في ذمتها المالية عن زوجها المنتظر ومساعدة له على مصاريف الأبناء وعلى تكاليف الحياة عموما التي لا تتوقف عن الارتفاع. غير أن الأمر يقتضي في البداية عرض مجموعة من الحقائق التاريخية من شأنها أن تساعد على فهم واقع العرب وحياتهم الاجتماعية إبان نزول الرسالة والذي يختلف كليا عنا، اذ يستحيل، ونحن نحاول أن نقوم بذلك، أن نضع الايات المحددة لأنصبة الارث تحت المجهر الفقهي والقانوني والاجتماعي المعاصر، دون أن نطلع عن كثب على الأحوال الاجتماعية والثقافية لمجتمع الجزيرة الصحراوية التي نزلت فيه والقائم عموما على القوة الجسدية والمعنوية للرجل آنذاك على اعتبار أنه «بحكم تفوق بنيته على بنية المرأة، وبفضل قوة عضلاته ومقاومته للطبيعة وللأخطار، عد سيد الأسرة ورب العائلة وبعل المرأة أي سيدها، منح نفسه حقوقا لم يعطيها للنساء، وبنى مفاهيم العدل والحق على أساس أن العدل هو القوة، فاغتصب حق المرأة والبنت والولد والرجل العاجز، لقوته ولأنه مقاتل، أما غيره من المذكورين فعاجز عن القتال، فحرمهم من الحقوق، ومنها حقوق الارث»….المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام، جواد علي….الجزء الرابعفالقرآن كما ذكر الإمام الشاطبي الأندلسي النسب، والمالكي المذهب، «نزل على معهود العرب» من عادات وتقاليد وأعراف وأخلاق جارية بينهم، ومعرفة أسباب نزول الاحكام ضروري كما يقول لأن «الجهل به موقع في التيه والاشكالات» و «من تتبع مجاري الحكايات في القرآن عرف مداخلها وما هو منها حق مما هو باطل» لذلك وجب بالضرورة فهم خطابه وأحكامه العملية ومقاصده العامة من هذه الجهة :1 – تقسيم أنصبة الارث للذكر مثل حظ الأنثيين مثلما ورد بالنص القرآني كان معمولا به في الجاهلية قبل نزول الوحي:هناك رواية تذكر أن أول من جعل للبنات نصيباً في الإرث من الجاهليين هو «ذو المجاسد» عامر بن جشم بن غنم بن حبيب بن كعب بن يشكر، ورّث ماله لولده في الجاهلية، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين فوافق حكمه حكم الإسلام. )لسان العرب، المجلد الرابع، ص 275 / نقلاً عن تاريخ العرب، المجلد الخامس، ص273)وقد أورد الامام الشاطبي هذه الحقيقة التاريخية مرتين في كتابه الموافقات في أصول الشريعة حيث أورد ما يلي : «ألا ترى أنه كان للعرب أحكام عندهم في الجاهلية أقرها الاسلام كما قالوا في القراض، وتقدير الدية، وضربها على العاقلة، وإلحاق الولد بالقافة، والوقوف بالمشعر الحرام، والحكم في الخنثى، وتوريث الولد للذكر مثل حظ الأنثيين، والقسامة وغير ذلك مما ذكره العلماء».هذه الحقيقة التاريخية التي أكدها الامام الشاطبي جاءت وهو بصدد حديثه عن مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم التي كان لعقلاء العرب (قبل نزول الاسلام (اعتناء بها والتي «صححت الشريعة منها ما هوصحيح وزادت عليه، وأبطلت ما هو باطل، وبينت ما ينفع من ذلك، ومضار ما يضر منه»، فمكارم الأخلاق والنهي عن مساوئها كانت «أول ما خوطبوا به) أي العرب (وأكثر ما تجد ذلك في السور المكية» وقد وردت هذه المكارم في «صيغة عامة وعبارات مطلقة» كالأمر بالعدل والإحسان والوفاء بالعهد والأخذ بالعفو والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي والوأد والفساد في الأرض…فتطبيقات مكارم الأخلاق هاته، يضيف الإمام الشاطبي والتي كانت معهودة عندهم على الجملة بل و«يُتٓمدّح بها» في زمانهم والتي «كانت فيهم من بقايا ملة أبيهم إبراهيم» هي التي أقرها الاسلام عليهم «كما قالوا في القراض وتقدير الدية وضربها على العاقلة، وإلحاق الولد بالقافة والوقوف بالمشعر الحرام والحكم في الخنثى وتوريث الولد للذكر مثل حظ الأنثيين والقسامة وغير ذلك مما ذكره العلماء». فهذه الأحكام بالإضافة الى أحكام أخرى ذكرها مثل قطع السارق وصلب قاطع الطريق والاغتسال من الجنابة وغسل الموتى وتكفينهم والكثير من شعائر الحج وهي مما كانت فيهم من بقايا ملة إبراهيم، بقوا على حكمها بعد الاسلام، إذ كانت تعد عندهم بمثابة استمرار لشعائر الملة الإبراهيمية وتطبيقات عملية لمكارم الأخلاق والنهي عن مساوئها، فالشريعة، كما يؤكد الإمام الشاطبي، «كلها إنما هي تَخَلَّق بمكارم الأخلاق».إن مواكبة الإسلام وتبنيه لبعض ما كان معهودا عند العرب في الجاهلية من مكارم خلقية وأحكام وأعراف عملية كانت سارية المفعول، واقع فرضته ضرورة محافظة الشريعة الجديدة على المستويات الأخلاقية للمجتمع الجاهلي الذي ستطبق فيه والا لكانت ووجهت بالرفض والرد آنذاك كما أكد الامام الشاطبي، فمسألة ضرورة التوافق النسبي للقوانين المراد تطبيقها مع الأخلاق والأعراف المجتمعية السائدة، تعد من المسلمات البديهية في علوم القانون اليوم، لذلك فهو أمر لم تستفرد به شريعتنا الاسلامية وحدها يضيف الشاطبي، بل تضطر اليه جميع الأنظمة القانونية وتفترضه مسبقا قبل أي محاولة تطبيق على أرض الواقع، فكما اوضح أحد الباحثين المعاصرين، يعد القانون الذي لا يحافظ على المستويات الأخلاقية للمجتمع الذي سيطبق فيه، فاشلا في أغلب الأحوال في إرساء سلطته على اعتبار أنه لم يحاول ضمان حد أدنى ومقبول من الطاعة الأخلاقية التلقائية له. فلأن القانون يعكس بطبعه الأخلاق العامة السائدة أوالتي تطمح الطبقة المستنيرة فيه الى إرسائها كسلوك تراه ضروريا للدفع بالمجتمع الى مزيد من التنظيم والانضباط، يفترض به مبدئيا أن يتوافق ويعكس معايير السلوك السائدة والقيم المتطلبة والا اضطر أن يلجأ في كل مرة لفرض نصوصه الى عنصر الجزاء والقسر وهوما يجعل عملية تطبيقه مكلفة ومتعبة بل وأحيانا ضربا من العبث. (فكرة القانون، دينيس لويد).وعليه فحكم توريث الذكر مثل حظ الأنثيين وغيرها من الأحكام الأخرى التي كانت سارية المفعول عند عقلاء تلك المرحلة أو على الأقل كانوا يطمحون الى ارساء تطبيقها، والتي أبقى الاسلام على الكثير منها، لم تكن أحكاما جديدة على مجتمع العرب الذي نزل فيه الوحي، بل كانت معروفة عندهم ومحمودة عند عقلاءهم وهم أحناف الفترة الجاهلية بصورة خاصة، المتمسكين ببقايا الملة الإبراهيمية التوحيدية القائمة على مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم. وبمفهوم المخالفة، كان يعد حرمان المرأة من حقها في الإرث عند هؤلاء ظلما لها وخرقا لمبدأ وشيمة العدل كقيمة خلقية يتمدح بها. هذا وقد اعتبر منحها ذلك النصيب من قبل الخطاب الإلهي، وإن كان فقط نصف نصيب الرجل، في تلك الفترة التاريخية التي كانت أغلبية العوام من العرب، تحرمها منه نظرا لمكانتها المتدنية والضعيفة مقارنة به وعدم مساهمتها في الإنتاج،عدل ليس بعده عدل، وإنصاف ليس بعده إنصاف.2 – كانت المرأة عامة قبل الاسلام لا تأخذ أي نصيب من الإرث لأنها في الواقع كانت أشبه ببضاعة لا غير : والدليل على ذلك عدة أمور : -انتشار أنواع من الأنكحة كانت تدل على ان المرأة كانت مجرد وسيلة للاستمتاع الجنسي وإنجاب الولد مثل زواج البدل (بمعنى ان يتبادل الأزواج زوجاتهم وكن كثيرات بينهم كان يتنازل زوج عن احدى زوجاته لآخر مقابل ان يتنازل الأخير عن إحدى زوجاته أيضا فمثلا أورد ابن كثير أن عيينة بن حصن الفيزاري وكان من المؤلفة قلوبهم، اقترح على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتنازل له عن زوجته عائشة مقابل ان يتنازل له هو عن أجمل زوجاته فأجابه الرسول بكل هدوء إن الله حرم ذلك وهذا يدل أن ذلك كان مألوفا عندهم… ، هناك ايضا زواج الاستبضاع (يقترح الزوج على إحدى زوجاته ان تضاجع شابا قوي البنية لتنجب منه نسلا قويا سينتسب للزوج وتستقوي به عشيرته أو قبيلته في الحروب والغارات التي كانت تدور بين العشائر والقبائل وكذا لحماية قوافل القبيلة من الإغارة ،(ثم هناك نكاح الضيزن ويقصد به أن يرمي الابن البكر ثوبه على زوجة أبيه المتوفى حديثا فتصبح زوجة له ارثا. - انتشار ظاهرة الزواج بنساء متعددات قد يبلغن الثمانية أو التسعة او أكثر بكثير من هذا الرقم فقد «روى علماء التفسير أن قريشا كان الرجل منهم يتزوج العشر من النساء والأكثر والأقل» المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، جواد علي) وأمثلة ذلك لا تحصى فاغلب الصحابة والعشرة المبشرين بالجنة تجاوز عدد زوجاتهم السبعة أو الثمانية (عبد الرحمان بن عوف 20) زوجة، عمر بن الخطاب 9 زوجات، علي بن أبي طالب 9 زوجات، سعد بن ابي وقّاص 11 زوجة (… وكانت هذه الظاهرة عادية ومألوفة سواء قبل الرسالة أو بعد نزولها، والسبب هوانه في تلك الفترة كان يعد الزواج بنساء كثيرات من مظاهر وجاهة الرجل وشرفه وعزه في المجتمع الذي ينتمي إليه، ومن هنا يفهم لماذا كان للرسول ص تسع نسوة، كيف لا وهو كان «سيد الناس وديان العرب»، والديان في لغة العرب هو: الحاكم والسائس والقاضي والحاسب، وأصل الدين الطاعة ودان الناس لملكهم أي أطاعوه، فلا يعقل والحالة هاته أن تكون له زوجة واحدة. -سرعة تداول النسوة بين الرجال بحيث كانت المرأة يتعاقب على الزواج بها خلال حياتها اربع اوخمس رجال، وكان هذا أمرا مألوفا عندهم لا نستسيغه نحن اليوم،من أمثلة ذلك : عاتكة بنت زيد وهي بنت عّم عمر بن الخطاب، تزوجها عبد الله بن أبي بكر، فلما قتل في حصار الطائف تزوجها زيد بن الخطاب الذي قتل بدوره في معركة اليمامة ثم الزبير بن العوام الذي قتل كذلك فتزوجها الحسن بن علي الذي مات مسموما، وغيرهن كثير. لهذا السبب نفهم لماذا جاء طلاق الزوج لزوجته في الإسلام يتم بكل سهولة أي بمجرد التلفظ بعبارته، نفهم كذلك لماذا أعطيت الزوجة مجرد الربع من الإرث أو الثمن من ميراث زوجها لانها حتما لن ترث من زوج واحد بل من أزواج آخرين ستتزوجهم بكل تأكيد ما دامت حياة الرجال إبان تلك المرحلة كانت دائما مهددة بالموت المحتوم بسبب الحروب والغارات التي كانوا يشاركون فيها دفاعا عن قبيلتهم أو قافلتهم التجارية.- يلاحظ أنه رغم كون القرآن وصف الزواج بأنه «ميثاق غليظ» كما أنه جعل العلاقة الزوجية من آياته، أي من روائع خلقه «ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون» فإن الزوجة بعد الممات استمرت لا تأخذ سوى نصيب ضئيل لا يتجاوز الربع في أحسن الأحوال وهو في الواقع نصيب وإن كان يبدو أنه لا يعكس عمق العلاقة الإنسانية الراقية التي كانت تجمعها والتي وصفها النص القرآني بكونها آية من آياته، إلا أنه وضع فرضه معطيان = الأول هو مراعاة الشريعة في تنزيلها للأحكام الجزئية التطبيقية العملية لمسألة التدرج في عملية التشريع وهو أمر لاحظه الإمام الشاطبي سواء أثناء تمييزه بين الأحكام المكية والمدنية وكيف كانت الأولى بمثابة تمهيد لتنزيل الثانية، وكذلك عند حديثه عن التدرج الذي عرفته الآيات المتتالية المتعلقة بالخمر والتي انتهت بتحريمه نهائيا. فبالنسبة لموضوعنا، لم يكن ممكنا في ظل المجتمع الرجولي الذي كانت المرأة تعد فيه «بعلة» للرجل أي أنها في حيازته وملكه، تعيش تحت وطأته محرومة من أي حق، من أن يحدد لها نصيب أكثر مما أورده القرآن والا ووجه بالرفض. يجب ألا ننسى أن قسمة الارث خلقت جدلا كبيرا بين صفوف رجال المجتمع العربي عند نزولها بل عبر البعض منهم صراحة عن رفضها. فكما أوضحت سابقا، مسألة التدرج في الأحكام التشريعية وضرورة مراعاتها للقيم العرفية والسلوكية والذهنية للمجتمع الذي يراد تطبيقها فيه، أمر تفترضه دائما ومسبقا كل القوانين المراد لها أن تحظى بحد ادنى من الاحترام والطاعة الأخلاقية له حتى تضمن أن تصير مع الوقت نافذة على الجميع في الوسط الذي شرعت لأجله، بما فيهم أولئك الذين رفضوها في البداية. المعطى الثاني يتجلى في الإمكانيات المتعددة للزوجة الأرملة، وهذا واقع كان لا زال جاريا، بالارتباط برجال اخرين سترث منهم حتما كما أوضحت سابقا. لذلك كان سيعد آنذاك إثراء بلا سبب ان ترث المرأة في كل مرة أكثر من ربع تركة زوجها.أشير أنه في أيامنا هذه يعد أمرا مشينا ان يتعاقب على المرأة أكثر من زوجين خلال طول حياتها.3 - النظام الاجتماعي القائم آنذاك كان قبليا عشائريا وليس أسريا مما يبرر عدم توريث المرأة :لم يكن بإمكان المرأة أن ترث في إطار بنية اجتماعية نواتها هي القبيلة أو العشيرة وليس الاسرة النووية المتكونة من زوج، زوجة وأبناء. فبغض النظر عن ظاهرة التفاخر الشفاهي بالانتساب الى القبيلة الأبوية التي كانت سائدة (في الشعر بصورة خاصة (او بغناها المادي أو قوتها العسكرية، كانت كل الأنشطة الاخرى التي يقوم بها أعضاؤها من الرجال، بما في ذلك الزواج، يجب أن تصب لمصلحة القبيلة وتقوية مكانتها العسكرية والمادية والرمزية بين القبائل الأخرى بشكل عام (زواج الاستبضاع والضيزن كمثال) .ولقد كان أهم نشاط يدر الدخل في تلك الفترة هو التجارة عبر القوافل أو غزو القبائل الاخرى للاستيلاء على ممتلكاتها (ماشية، ذهب، مواد غذائية وكذلك سبي نساءهم وأطفالهم الصغار لبيعهم في الأسواق ،(فالعرب كانوا يحتقرون الزراعة والمهن اليدوية الحرفية) ربما لا زالوا الى اليوم) .اما التجارة فكانت نشاطا مرغوبا فيه وهناك حديث عن الرسول ص يقول فيه إن تسعة أعشار الرزق في التجارة، وحديث آخر منسوب اليه يقول فيه : «جعل الله رزق هذه الأمة في سنابك خيلها وأزجة رماحها» وهوما يدل على أن التجارة والغزو وجمع الغنائم من القبائل الأخرى كان مصدرا مألوفا وممتدحا عندهم. لهذا السبب كان توريث المرأة يعد استنزافا ماديا للقبيلة التي تنتمي إليها هذه المرأة التي ربما قد تتزوج من رجل ينتمي الى قبيلة او عشيرة او رهط آخر فتساهم بالتالي في تقويته على حساب القبيلة التي كانت تنتمي إليها، فالرجل العربي كان يقول لابنته أو أخته اذا زوجها من بعيد غير قريب «لا أيسرت ولا أنكرت، فإنك تدنين البعداء وتلدين الأعداء» فغالب الميراث في حال وجوده كان إبلا، ماشية، أحصنة، مواد غذائية، معادن نفيسة أو أراضي خصبة محصورة في أماكن معروفة ومحدودة ، لذلك كانت القبيلة ترفض توريث المرأة ولعل الواقعة التالية التي تشكل سبب نزول آية الإرث توضح ذلك : «يذكر علماء الأخبار أن رجلاً من الأنصار مات قبل نزول آية المواريث، وترك أربع بنات، فأخذ بنوعمه ماله كله. فجاءت امرأته النبي تشتكي مما فعله بنوعم المتوفى ومن سوء حالها وعدم تمكنها من إعالة بناتها، فنزل الوحي) للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون) . ثم نزلت آية الميراث: يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين. وبذلك انتفت سنة الجاهليين في عدم توريث البنات.وقد نزلت الآيتان من أجل أن أهل الجاهلية كَانوا يورثون الذكور دون الإناث. فكان “النساء لا يرثن في الجاهلية من الآباء، وكان الكبيريرث ولا يرث الصغير، وإن كان ذكرا. وقد ذَكر بعض العلماء ان آية: “للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون”، “نزلت في أم كحة وابنة كحة وثعلبة وأوس ابن سويد، وهم من الأنصار. كان أحدهم زوجها والآخر عم ولدها. فقالت: يا رسول الله توفي زوجي وتْركتي وابنته، فلم نورث فقال عم ولدها: يا رسول الله لا تركب فرساً، ولاتشمل كلا. ولا تنكأ عدواً يكب عليها، ولا تكتسب. فنزلت للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون. وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون، مما قلّ منه أو كثر، نصيباً مفروضاً”. وذكروا ان نزول الآية “يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين”، انما كان “لأن أهل الجاهلية كانوا لا يقسمون من ميراث الميت لأحد من ورثته بعده ممن كان لا يلاقي العدو ولا يقاتل في الحروب من صغار ولده ولا للنساء منهم. وكانوا يخصون بذلك المقاتلة دون الذرية، فأخبر الله جل ثناؤه ان ما خلفه الميت بين من سمي وفرض له ميراثاً في هذه الآية.وفي آخر هذه السورة فقال: في صغار ولد الميت وكبارهم وإناثهم لهم ميراث أبيهم، إذا لم يكن له وارث غيرهم للذكر مثل حظ الأنثيين”. وذكر انه “لما نزلت الفرائض التي فرض الله فيها مما فرض للولد الذكر والأنثى والأبوين كرهها الناس أو بعضهم، وقالوا: تعطى المرأة الربع والثمن، وتعطى الابنة النصف، ويعطى الغلام الصغير وليس من هؤلاء أحد يقاتل القوم ولا يحوز الغنيمة، اسكتوا عن هذا الحديث لعل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ينساه أو نقول له فيغيره، فقال بعضهم: يا رسول الله أ نعطي الجارية نصف ما ترك أبوها، وليست تركب الفرس ولا تقاتل القوم؟ ونعطي الصبي الميراث، وليس يغني شيئاً، وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية لا يعطون الميراث إلا من قاتل، ويعطونه الأكبر فالأكبر . وعجز اليتامى عن الدفاع، وعن تحصيل حقهم في الميراث، جعل الورثة الكبار يأكلون اموالهم وحقوقهم، ولا يؤدون لهم نصيباً في الإرث. ولهذا وبخ القرآن الكريم أهل الجاهلية على اكلهم أموال اليتامى، وحرم ذلك عليهم، وحافظ على نصيبهم فيه، وحمى اليتيم ودافع عنه كثيراً، وقد كان الرسول نفسه يتيما، لاقى من قومه ما يلاقيه كلّ يتيم.هناك ملاحظات يمكن أن نستشفها من خلال هذا الخبر الذي أورد سبب نزول اية الإرث : – كون الإرث كان ينظر إليه كأنه غنيمة حرب يؤول الى الرجال الأشداء والوجهاء إذ كان يتم اقتسامه على هذا الأساس فلا تأخذ منه لا المرأة ولا الصغير ولا الرجل العاجز. – كون التقسيم الجديد الذي جاء به القران شكل ثورة جذرية على التقسيم القديم وهو الأمر الذي رفضه العرب في بداية الأمر.- كون التقسيم الجديد جاء كأحد السبل التمهيدية نحو تحويل بنية المجتمع العربي من بنية قبلية عشائرية الى بنية أسرية يكون فيها أبناء وبنات وزوجة الهالك مركز الاهتمام بحيث يحظوا بالنصيب الأكبر منه، بل حتى الجنين وهو لازال في بطن أمه، فيما تقلص حجم نصيب باقي أقارب الهالك خاصة عصبته الى حد كبير.فكما أشرت آنفا، حاولت رسالة الإسلام من خلال السمة الأخلاقية المثالية التي اتسمت بها معظم أحكامها وهو أمر أكده الإمام الشاطبي مرارا بل وبنى عليه كامل نظريته التشريعية الجديدة، أن تعكس هذه الروح الأخلاقية في أهم نواة مجتمعية وهي الأسرة. في الواقع، تعد محاولة الإسلام هاته في تحويل المجتمع العربي آنذاك من مجتمع عشائري قبلي الى مجتمع أسري نووي، من أعظم الإصلاحات التي رامت الرسالة المحمدية ادخالها على النوع البشري كديانة انسانية عامة وخالدة جديرة بالاعتناق. ذلك أنه بغض النظر عن المكانة الجديدة التي اعتلتها المرأة بفضل الإسلام في سلم الحقوق المجتمعية من جعلها مثلا طرفا أصلي في عقد الزواج بعدما كانت مجرد موضوع له، وبتحديد عدد الزوجات في أربع مع اشتراط العدل، بعد أن كان لا حصر له، وبتحريم العديد من الأنكحة الجاهلية التي تحط من قدرها وبتمكينها شخصيا من مهرها ومن حقوقها في تحديد زمن العدة من وفاة أو طلاق وما يترتب عليه من نفقة ومتعة وسكن بعدما كانت لا تأخذ شيئا منه الى غير ذلك من الامتيازات الجديدة التي رفعت مكانتها المعنوية والمادية، فقد بدت هذه الامتيازات وكأنها تمهد لدور حيوي، جديد كليا، ستضطلع به المرأة في المجتمع المسلم الجديد سيكون موضوعه الأساس هو الأطفال الذين سيولدون مستقبلا باعتبارهم أجيال أو ناشئة مسلمة قادمة، من الضروري أن يروا النور وهم ضمن أسرة نووية متزنة أخلاقيا وحقوقيا، مفعمة بالمودة والرحمة، لا ضمن عائلة أوعشيرة ممتدة، ملؤها الأحقاد والصراع على الزعامة والغنيمة، غير محفوظة الحقوق لجميع الأفراد المكونين لها. فنهى الإسلام بصورة مطلقة عن وأد البنات وإيلاء أهمية بالغة لاختيار الزوجة الصالحة وضرورة معاملتها بلطف وانسانية وهي في بيت الزوجية، مع أفرادها قبل ذلك وهي لا زالت طفلة في بيت أبيها، المساواة التامة مع الطفل الذكر في المعاملة الطيبة والتربية والتعليم، لا يمكن أن يكون إلا لهذه الغاية. إن تأكيد الشريعة، من جهة أخرى، على اعتبار الأطفال، سواء كانوا بنين أو بنات، بمثابة صفحات بيضاء يولدون على الفطرة وهو ما أورده حديث «كل مولود يولد على الفطرة»، عزز من حرصها على ضرورة رعايتهم وتلقينهم التربية الحسنة من يوم ازديادهم مع تحميل أبويهم معا هذه المسؤولية الجسيمة (حديث كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) .عزز كذلك حرصها على ضرورة تعليمهم دون استثناء أوتمييز جنسي عند بلوغهم السن المؤهل لذلك وبغض النظر عن انتماءهم الطبقي. لقد بدا الإسلام من خلال تعاليمه الجديدة الخاصة بالمرأة وتنشئة الأطفال وكأنه يراهن بهم على مستقبله العلمي والحضاري. فحسب أحد الباحثين الغربيين الذي اعتبر أن الحق العام والشامل في التعليم «يعد من أعظم الإصلاحات التاريخية التي أدخلها الاسلام على عالم الطفولة……» -كون تقسيم الإرث قبل نزول الوحي كان مرتبطا بعنصر الانتاج أو الاكتساب، فالفرد المنتِج بشكل عام، سواء كان تجارة بالقوافل أوغزوا وجمعا للغنيمة، هو من كان يأخذ نصيبا منه ولا مجال فيه للطرف الضعيف كالأطفال والنساء والعجزة.- كون ان الشريعة الاسلامية بإحداثها نصيبا في الإرث للمرأة لم تكن لتحلم به قبل نزول الوحي، شكل في الواقع قطيعة وثورة حقيقية على وضعها المهين التي كانت تعيشه قبل ذلك، ذلك انه بالإضافة الى الأحاديث النبوية المتعددة التي أوصت بها خيرا والتي عضدتها معاملة الرسول ص الطيبة والانسانية لزوجاته وبناته، فقد فرض الإسلام على الرجل الإنفاق عليها من ماله ولو كانت غنية مشترطا عليها فقط طاعة زوجها بالمعروف وحسن معاملتها له، ففي حديث أسماء بنت يزيد الأشهلية الذي أخرجه البيهقي في شعب الإيمان أنها جاءت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، أنا وافدة النساء إليك، إن الله عز وجل بعثك إلى الرجال والنساء كافة، فآمنا بك وبإلهك، وإنا معشر النساء محصورات مقصورات، قواعد بيوتكم ومقضى شهواتكم، وحاملات أولادكم، وإنكم معشر الرجال فُضِّلتم علينا بالجمع والجماعات وعيادة المرضى وشهود الجنائز، والحج بعد الحج، وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله عز وجل، وإن الرجل منكم إذا خرج حاجاً أومجاهداً حفظنا لكم أموالكم، وغزلنا أثوابكم، وربينا لكم أولادكم، أفلا نشارككم في الأجر؟ فالتفت النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أصحابه ثم قال: هل سمعتم بمقالة امرأة قط أحسن من مساءلتها في أمر دينها من هذه؟ فقالوا يا رسول الله ما ظننا أن امرأة تهتدي إلى مثل هذا، فالتفت النبي – عليه الصلاة والسلام- إليها، ثم قال: انصرفي أيتها المرأة وأعلمي من خلفك من النساء، أن حسن تبعُّل إحداكن لزوجها وطلبها مرضاته، واتباعها موافقته، يعدل ذلك كله)· فانصرفت أسماء وهي تهلل)·ان مسألة تفضيل بقاء المرأة في بيت زوجها لتربية الأبناء والسهر على مرضاته والذي يتعين ان يقابله من جهة الزوج، كطرف مقابل، حسن معاملته وتحمل مسؤوليته المادية والتربوية ازاءها وازاء أسرته وهو ما تفرضه عليه دينيا وأخلاقيا معايير المروءة العربية والتقوى الدينية، واقع فرضته الظروف الاقتصادية والأمنية لذلك العصر أكثر من أي شيء آخر…..بعد هذه التوطئة التي عرضنا فيه مجموعة من الحقائق التاريخية، يجدر الان عرض أهم المنطلقات الفكرية للإمام الشاطبي التي ستساعد في القول أوعلى الأقل تفتح باب مناقشة إمكانية إدخال تعديل جزئي على نظام الارث من شأنه درء المفسدة عن الحالة الواقعية التي ذكرتها وحالات أخرى مشابهة كثيرة الحصول في الواقع، وكذلك إقرار مساواة تامة ونهائية بين الرجل والمرأة في هذا الشأن ما دام أن عنصر الاكتساب أو القوامة الذي يقوم عليه التمييز بين الذكر والأنثى في تقسيم الارث بل ويعد علته الشرعية، أصبح في وقتنا الحاضر مجالا مشتركا بين الجنسين، بل ان الواقع ومصلحة الأسرة واستقرارها المادي ورفاهها أضحوا يفرضون ذلك، فأغلب الأحكام التكليفية الاخرى التي أمرت بها الشريعة كلا الجنسين البشريين جاءت على حد سواء دون أدنى تمييز، اللهم ذلك المتعلق بالطبيعة الجسدية التي تميز كل واحد منهما والتي تجعل بعض الاحكام تسري على الواحد منهما دون الاخر (الولادة، الحيض بالنسبة للمرأة).واعتمادنا على الإمام الشاطبي يبرره عاملان:أولهما كونه محسوب على المذهب السني المالكي الذي يعتنقه المغرب كما انه تتلمذ على علماء من المغرب والأندلس جميعهم ينتمون الى مذهب إمام دار الهجرة.ثانيهما قوله ببناء الأحكام الشرعية التكليفية على مقاصد الشريعة الاسلامية العامة التي تتجلى عامة في اعتبارها «لمصالح العباد في العاجل والآجل معا» ودرءها من جهة أخرى كل المفاسد المُحتملة عنهم، أو بحسب تعبير قاضي قضاة قرطبة وفيلسوفها الإمام أبو الوليد ابن رشد «مقصود الشرع هو تعليم العمل الحق، والعمل الحق هو امتثال الأفعال التي تفيد السعادة وتجنب الأفعال التي تفيد الشقاء» مع رفعها أيضا عن سائر الخاضعين لأوامرها كل حرج أو مشقة بمناسبة تنفيذهم لها.أما ثالثهما فقوله بضرورة مراعاتها لتبدل عوائدهم وظروفهم العامة وإلا صارت تكليفا بما لا يُطاق، ففهم الواقع والفقه فيه يعد من شروط الإفتاء وإصدار الأحكام الشرعية، وكما يقول الامام القرافي «إجراء الأحكام التي مدركها العوائد مع تغير تلك العوائد هو خلاف الإجماع وجهالة في الدين بل كل ما في الشريعة يتبع لعوائد، يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة»، فلو لم تعتبر العوائد في الشريعة لأدى ذلك إلى تكليف ما لا يُطاق. وعليه وجب أولا تحديد المنطلقات الفكرية التي اعتمدها الإمام الشاطبي في قوله بوجوب مراعاة مقاصد الشريعة الاسلامية القائمة في عمومها على جلب المصالح للمكلفين ودرء المفاسد عنهم أثناء كل عملية تشريع أو اجتهاد أو تطبيق لحكم شرعي، وهي مقاصد تجد أساسا سندها العام في أصول أو كليات الشريعة، اما جاءت في شكل نصوص نقلية، وردت بصيغة عامة ومطلقة، كانت هي الموضوعة أولا بمكة، أو في شكل قوانين كلية أي معاني مستقرأة من الأولى ومن باقي أحكام وأخبار الشريعة. فالأولى، والتي أطلق عليها كذلك عبارة «الأصول الأولى» والتي لا أصول فوقها باعتبارها المصدر النهائي والمطلق، هي مكارم الأخلاق كالأمر بالعدل والإحسان والوفاء بالعهد وعمل الصالحات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومنع الظلم وأكل أموال الناس بالباطل واكل أموال اليتامى والإفساد في الأرض وأخذ العفو وهي كما يلاحظ وردت في النص القرآني أثناء فترة نزوله بمكة، وجاءت في شكل عبارات مطلقة وعامة وغير مقدرة ولا محددة. أما الثانية فيقصد بها تلك القواعد أو المعاني أوالقوانين الكلية التي ثبتت بصورة قطعية بالاستقراء العام لجملة نصوص الشريعة مثل رفع الضرر ورفع الحرج وسد الذرائع والاستحسان والنظر الى مآلات الأحكام وغيرها من الكليات الاستقرائية القطعية التي لم ترد بشكل صريح بل تم استقراؤها والتأكد من قطعيتها لتكرار معانيها وتضافر الأحكام والأخبار الدالة عليها ولوبطريقة غير مباشرة، فهي، على حد قول المرحوم د فريد النصاري، أصول او قواعد تصلح للاعمال الاجتهادي والاستنباط لشموليتها وحاكميتها.فهذه الكليات أو الأصول أو القواعد حسب الشاطبي، مبثوثة في جميع أبواب الشريعة، ثبتت له اما بعد استقراء عام لأحكامها الكلية والجزئية الواردة في مصادرها الرئيسية (قران، سنة صحيحة، عمل الصحابة، إجماع ،(… أو أنها وردت بصيغة عامة مباشرة أطلق عليها تحديدا لفظ «الأصول الأولى» لأنها منصوصات نقلية، كانت هي الموضوعة اولا بمكة حسب ما أشير اليه أعلاه، فهذه الكليات، وبغض النظر عن المصطلح الذي أطلق عليها وكذا عن طبيعتها النقلية أو الاستقرائية أو مصدرها سواء كان قرآنا أو سنة أو إجماع صحابة، فهي تظل دائما كليات أو مبادئ عامة «لا تنافي قضايا العقول» لأنها في مجملها تروم المحافظة على الضروريات البشرية الخمس (الدين، النفس، العقل، النسل، المال .(وهذه الضروريات كانت دائما «مراعاة في كل ملة وإن اختلفت أوجه حفظها بحسب كل ملة» فهي «أدلة باتفاق العقلاء»، «بحيث تصدقها العقول الراجحة وتنقاد لها طائعة لا كارهة».المنطلقات الفكرية للإمام الشاطبي للقول بقيام الشريعة على مقاصد وأحكام كلية عامة :حتى يبرر الإمام الشاطبي قوله بأن غاية الشريعة الاسلامية عامة هو جلب المصالح للعباد ودرءها من جهة أخرى المفاسد عنهم، وأنه بالتالي يجب تطبيق الأحكام والتشريع لها وفق هذه الرؤية الكلية، فلقد تطلب منه ذلك عرض مجموعة من الأفكار والمبادئ إما ضمنها في مقدماته التي استهل بها كتابه الموافقات أو جاءت مبثوثة فيه هنا وهناك بشكل غير منتظم، فهي الواقع شكلت تمهيدا ابستمولوجيا لنظريته التشريعية الجديدة والتي كان يهدف من ورائها إقناع جمهرة فقهاء عصره الغارقون في اختلافاتهم اللفظية واقيستهم العقيمة ومصنفاتهم الفقهية المعقدة، بكون الشريعة الاسلامية سمحة الأحكام، بسيطة الفهم، لا تتطلب عملية الاجتهاد وفقها وفي إطارها كل هذه التعقيدات المسطرية التي راكمها الفقهاء والأصوليون منذ القرن الرابع الهجري، فهي سهلة المدرك لائقة بمستوى ثقافة أي جمهور عادي،بحيث أنه من شأن بساطتها وسهولة استيعابها أو «أميتها»، إذ أنها نزلت على أميين بسطاء في الفهم والإدراك، أن تجعل كل مواطن مسلم «فقيه نفسه». 1 -من طبيعة الشريعة الاسلامية أنها لا تنافي العقل البشري لأن مقصدها الأساس جلب مصالح العباد ودرء المفاسد عنهم : ومرد ذلك الى أنها تروم في مجملها المحافظة على المقاصد التي بها يكون صلاح الدارين، أي الدنيا والآخرة، وهي حفظ الضروريات البشرية الخمس والتي هي الدين والنفس والعقل والنسل والمال، ثم الحاجيات والتحسينات، وما هو مكمل لها ومتمم لأطرافها فهي أصول الشريعة وهي «أدلة باتفاق العقلاء» لأنها نصبت في الشريعة لتتلقاها عقول المكلفين إذ مورد التكليف هو العقل «فَلَو كانت مقاصد أو قوانين هذه الشريعة لا تنسجم مع العقل لكان الكفار أول من ردها» ..فهم «عرفوا (اقتنعوا) بجريانها على مقتضى العقول»، كما أن عملية استقراءها جملة «دلت على جريانها على مقتضى العقول بحيث تصدقها العقول الراجحة وتنقاد لها طائعة غير كارهة». فكما كان يقول الإمام العز بن عبد السلام قبل ذلك «معظم مصالح الدنيا ومفاسدها معروف بالعقل…وأن تقديم الاصلح فالأصلح ودرء الأفسد فالأفسد مركوز في طبائع العباد….ومصالح الدنيا وأسبابها ومفاسدها معروفة بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات…ومن أراد أن يعرف المتناسبات والمصالح والمفاسد، فليعرض ذلك على عقله بتقدير أن الشرع لم يرد به ثم يبني عليه الاحكام، فلا يكاد حكم يخرج عن ذلك إلا ما تعبد الله به عباده…وبذلك تعرف حسن الأعمال وقبحها في ذاتها…» ومن تتبع مقاصد الشرع في جلب المصالح ودرء المفاسد، حصل له من مجموع ذلك اعتقاد أوعرفان بأن هذه المصلحة لا يجوز إهمالها وأن هذه المفسدة لا يجوز قربانها وإن لم يكن فيها إجماع ولا نص ولا قياس خاص.وهكذا فالأمر بالمصالح والنهي عن المفاسد مطرد مطلقا في في كليات الشريعة وجزئياتها وهوما جعل لها خصائص تمتاز بها وهي العموم والاطراد والثبوت من غير زوال، غير قابلة أحكامها للتبدل، تسري على عموم المكلفين، لا بحسب خصوص بعضهم ولا بحسب زمان دون زمان ولا حال دون حال….؟؟ – 2الشريعة الاسلامية ما هي الا استمرار للملل والديانات القديمة وشرائع وقوانين الأمم السابقة : يبرر الامام الشاطبي قوله هذا بكون شريعتنا الاسلامية هي في مجملها اقتضاء وسعي للمصالح الدنيوية وأن ما تقدم من الامم السابقة «سواء كان لا شريعة له أوكانت له واندثرت فقد كانت (أي اقتضاء المصالح الدنيوية) تتم بالنظر العقلي….وهي ما يسمونه بالسياسة المدنية، فهذا أمر قد توارد النقل والعقل على صحته في الجملة»، وعليه ف«كليات الشريعة معتبرة في كل ملة»… لأن العقلاء في الفترات (التاريخية السابقة) قد كانوا يحافظون على تلك الأشياء بمقتضى أنظار عقولهم فإن كان «القرآن كله حكمة»، «فقد كانوا عارفين بالحكمة»، وسبب استشهاد القرآن الكريم بالآيات التي تدل على أن الإسلام لم يخرج عن الخط الأخلاقي التشريعي العام للأمم والملل السابقة المقتضي في كليته جلب مصالح العباد ودرء المفاسد عنهم، «حتى يعلموا (أي العرب الذين نزل فيهم) أنهم لم يستفردوا بهذا الامر دون الخلق الماضين بل هم مشتركون في مقتضاه». – 3 الشريعة الاسلامية فطرية منسجمة مع الضمير الإنساني : ومرد ذلك كون أن «الله وضعها سمحة سهلة حفظ فيها على الخلق قلوبهم وحببها إليهم» فأحكامها العامة التي تعد وحدها المرجع العام في أية عملية تشريع او اجتهاد والتي غالبها أحكام كلية معنوية مثل الأمر بالعدل والإحسان والوفاء بالعهد والنهي عن الفساد في الأرض…. كلها أحكام ومبادئ يميل إليها بالفطرة كل ضمير بشري ويتوخى تنزيلها على الواقع الذي يعيشه بغض النظر عن زمانه او مكانه، ذلك وكما لاحظ ايراسموس، أحد فلاسفة التنوير، «هناك عقل في كل إنسان، وفي كل عقل يوجد جهد يتجه نحو الخير». 4 – الشريعة الاسلامية نزلت على معهود العرب لذلك وجب فهم معاني خطابها وعلل أحكامها ومقاصدها في إقامة العدل وجلب المصالح ودرء المفاسد بالاستناد الى أسباب نزوله بينهم :هذا الامر، حسب الامام الشاطبي، يقتضي أولا من أي مجتهد أو مشروع أو مفتي ضرورة الإلمام باللغة العربية ولسان العرب إبان نزول الرسالة المحمدية، «إذ لما كان المرجع في معرفة شرعنا هو القرآن والأخبار وهما واردان بلغة العرب ونحوهم وتصريفهم، كان العلم بشرعنا موقوفا على العلم بهذه الأمور …»وذلك حتى يمكن «معرفة مقاصد كلامهم وعلم المعاني والبيان الذي يعرف به إعجاز نظم القرآن» ولقد سبق للخليفة عمر بن الخطاب أن أوصى قائلا : «أيها الناس، تمسكوا بديوان شعركم في جاهليتكم فإن فيه تفسير كتابكم».كما يقتضي الأمر ثانيا الاطلاع «ومعرفة عادات العرب في أقوالها وأفعالها ومجاري أحوالها حالة التنزيل» ذلك أن «الجهل بأسباب التنزيل موقع في التيه والاشكالات» وعليه فمعرفة معاني النص القرآني وبيانه، «إنما مداره على مقتضيات الأحوال حال الخطاب، من جهة نفس الخطاب، أوالمخاطِب أوالمخاطَب، أو الجميع» فشأن أسباب النزول هو«التعريف بمعاني المنزٓل» و «من تتبع مجاري الحكايات في القرآن عرف مداخلها وما هو منها حق مما هو باطل». لذلك فإنه بفضل الإلمام بهاتين المعرفتين، أي لسان العرب وحالهم وعوائدهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية فترة التنزيل، اعتبر بيان واجتهادات الصحابة حجة، فهم من جهة، كانوا أعرف باللسان العربي لأنهم «عرب فصحاء» فكانوا أعرف في فهم الكتاب والسنة من غيرهم، ومن جهة أخرى، مباشرتهم للوقائع والنوازل التي كانت سبب تنزيل الوحي بالكتاب والسنة، جعلتهم «أقعد في فهم القرائن الحالية وأعرف بأسباب التنزيل، يدركون ما لا يدركه غيرهم بسبب ذلك، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب»، «فأصحاب النبي كانوا أعلم بكتاب الله أين نزل وفيما نزل». وعلى هذا الأساس، جاءت الاجتهادات المشهورة الصادرة مثلا عن الخليفة عمر ض، صائبة وعادلة ومحققة في مجملها لمقاصد الشريعة الاسلامية العامة بفضل تمكنه من هاتين المعرفتين وهوما سمح له في الكثير من الأحيان بتجاوز النص القرآني كإيقاف العمل بعقوبة قطع اليد في جريمة السرقة، وايقاف العمل نهائيا بحكم سهم المؤلفة قلوبهم وكذا تجاوز قسمة الارث المفرزة بشكل صريح بالخطاب الإلهي والتي سنأتي على بيانها لاحقا. 5 -تمييزه الدقيق والغير المسبوق بين كليات الشريعة وجزئياتها أثناء كل عملية تطبيق لحكم شرعي أوتشريع أو اجتهاد : في الواقع، يعد هذا التمييز خلاصة جميع المنطلقات التي ذكرناها آنفا. فالشاطبي، كما لاحظ عن حق المرحوم د. فريد النصاري «أقام مشروعه الأصولي على مفهوم الكليات بالقصد الأول»، وهوما اقتضى منه كذلك من ناحية أخرى تميييز هذا المفهوم عن مفهوم الجزئيات ووضع حد بينهما، رؤية وتطبيقا. في اعتقادي المتواضع أن هذا التمييز الدقيق لم يُسبق إليه الإمام الشاطبي في تاريخ الفكر القانوني أو التشريعي برمته. ذلك أنه يمكن لنا فقط أن نجد له نظيرا يقترب من فكرته العامة في ذلك التيار الفكري القانوني الذي صاحب الثورة البروتستانتية في القرن السادس عشر والذي رام خلالها اعادة تشكيل الفكر القانوني في الغرب المسيحي على أسس جديدة تتجاوز شروحات وخلافات القوانين الكنسية المعمول بها، اذ رام هذا التيار وضع أسس جديدة للتشريع تنطلق من مجموعة مبادئ أخلاقية كلية تنظم علاقة الإنسان بأخيه الإنسان استنادا للوصايا العشر الدينية التي انطلاقا منها يمكن استنباط واشتقاق ووضع باقي الأحكام والقوانين التي تنظم المجتمع.صحيح أن بعض الباحثين اعتبروا عن حق أن رسالة الامام الشافعي في أصول الفقه والتشريع تعد «أول محاولة في العالم لإنشاء علم للقانون» وذلك عندما وضع مسطرة خاصة يجب سلوكها في كل عملية تطبيق أو اجتهاد أو تشريع انطلاقا من القرآن والسنة وبالقياس عليهما، ركز هو كذلك خلالها على ضرورة التبحر في لسان العرب، لكن الذي حدث هو أن الأصوليون بعد الشافعي بالغوا في التركيز على دراسة والتوسع في ألفاظ الأوامر والأحكام الشرعية وأهملوا معانيها ومقصدها والحكمة من تشريعها. لنلاحظ مثلا كيف اختلف الأصوليون كثيرا بعد الشافعي حول الدلالة اللغوية لصيغة الأمر الواردة في الخطاب القرآني، فمنهم من اعتبرها للندب فقط ومنهم من اعتبرها للوجوب ومنهم من اعتبرها تفيد الاباحة. فهذا الاختلاف الأصولي اللغوي مثلا كانت له عواقب وخيمة على الفقه الإسلامي وساهم بشكل أساسي في بعث الجمود داخله وتحجيم دوره في إرساء نظام مجتمعي أصبحت سلطة التشريع فيه بسبب ذلك للجهاز التنفيذي بدل جهاز الفقهاء الغارقون في اختلافاتهم، كان له أيضا انعكاس سلبي على الجهاز القضائي الذي انحصر اختصاصه تبعا لذلك في النظر في القضايا المدنية والأحوال الشخصية دون القضايا الجنائية والادارية التي تولتها السلطة التنفيذية واستمرت على ذلك الحال الى أن طرق الاستعمار ابواب الدول الإسلامية. أما الامام الشاطبي، الذي بفضل رؤيته الجديدة للشريعة فقد تجاوز في الواقع مرحلة المحاولة نحو إرساء حقيقي لعلم القانون يقوم مباشرة على المبادئ العامة لا على البحث عن أقوال الفقهاء المتناثرة والمتناقضة .فبقصد إخراج علم أصول الفقه من خلافاته اللفظية والقياسية، قام بعملية استقراء شاملة لجميع الأوامر والأحكام الواردة بأهم المصادر التشريعية الاسلامية الاولى من كتاب وسنة صحيحة وإجماع وعمل الصحابة واجتهاداتهم، مستعينا في ذلك بإلمامه بلسان العرب واطلاعه تاريخيا على أحوالهم وعاداتهم وثقافتهم عموما حال التنزيل، ليتبين له في نهاية المطاف أن هذه الشريعة المحمدية المباركة هي في مجملها «تَخَلَّق بمكارم الاخلاق» الذي كان العرب يتمدحون به قبل وإبان نزول الرسالة، تروم تحقيق العدل بين العباد ونشر الاحسان بينهم… وتنهى عن الفساد والظلم والبغي…..وقد أطلق على هذه الأهداف أوالمقاصد مصطلح «كليات معنوية»، وأحيانا لفظ أصول أو أدلة أو قواعد أو قوانين، وهي كلها لا تعدو أن تكون مبادئ أخلاقية عليا حسب تعبيرنا المعاصر وقوانين عامة محكمة مستنبطة من نفس المبادئ، وظيفتهما الأساسية هي كونهما منطلقات للتشريع والاجتهاد والحكم والاستنباط الفقهي. فهذه الكليات أو القوانين أو الأصول هي عبارة عن مقياس عام ومحكم لضبط النظر وتقويمه لأنها «راجعة لأمر معقول لا يحصل في الخارج إلا في ضمن (أوعبر) الجزئيات» فهي تتنزل في الواقع في شكل جزئيات أو مواد قانونية تفصيلية بتعبيرنا المعاصر، يميل إليها بالفطرة كل طبع أو ضمير بشري (الإنسان خير بطبعه)، ويبتغي تحقيقها وتنزيلها على أرض الواقع كل مجتمع إنساني، بغض النظر عن مكانه أو زمانه أو دينه، فقد «دلت على ضرورة مراعاتها تجارب الامم السابقة وعاداتها»، «كما أن الآيات أخبرت بوجودها في الشرائع المتقدمة»، ف«الضروريات (المستقرأة من هذه الكليات) كانت مراعاة في كل ملة، وإن اختلفت أوجه حفظها بحسب كل ملة»، فهي كليات عامة تجلب بطبيعتها المصالح لأي مجتمع وتدرأ المفاسد عنه، تروم أساسا حفظ ضروريات الإنسان الخمس من دين ونفس ونسل…. بالاضافة الى مكملاتها من حاجيات وتحسينات، فهي كليات أزلية غير قابلة للنسخ، مطردة، قطعية يصح وحدها أن تكون قوانين لغيرها، لأنها «جاءت في عبارات مطلقة تتناول أعدادا لا تنحصر من الوقائع الجزئية التي يفرزها الواقع المتجدد….. فهي صالحة في كل زمان، في جميع الوقائع وأكثرها» غير مختصة بمكان دون مكان ولا بزمان دون زمان، جارية على مقتضى العقول، جاءت أسبق في النزول من الجزئيات لأنها نزلت بمكة أما الجزئيات فنزلت بالمدينة، وهي في التشريع أكثر، بل وهي المقصودة بالحفظ في الآية الكريمة «إنَّا نزلنا الذكر وإنَّا له لحافظون»، عرف بها القرآن أكثر من الاحكام الجزئية. فهذه الكليات المعنوية الأخلاقية هي التي استند عليها أساسا كبار الصحابة فجاءت اجتهاداتهم موفقة يبنى عليها. أما الجزئيات والتفاصيل التشريعية، فقد نزلت في المدينة لاحقة على هذه الكليات، فبعد أن استأنس العرب بالخطاب المكي الذي حضهم بصورة متكررة على مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم من خلال آياته الكثيرة التي نصت على ذلك، لانت قلوبهم من كثرة تذكيرهم بها في كل مرة ومن انها لا تعدو أن تكون من ملة أبيهم إبراهيم….. ابتدأ في المدينة تفصيل التشريع تدريجيا فحرمت الخمر محافظة العقل والزنى محافظة على النسل، وإعطاء المرأة والصبي الصغير حظهما من الإرث أعمالا لمبدأ العدل والانصاف وحرمت الربا أخيرا …الى غير ذلك من باقي الأحكام التفصيلية التي وردت في المدينة وهي أحكام جاءت وفق العوائد الخاصة بذلك المجتمع وبانتظاراته وتطلعاته الدينية الخلاقية الجديدة، اذ يفترض دائما أن «في كل نظام قانوني نوعا من القيم (الاخلاقية (يعكسها هذا النظام» كما لاحظ أحد المفكرين المعاصرين 125ص، لذلك لم تخرج هذه الأحكام الجزئية عما كان العمل جاريا به ف «التكليف مبني على استقرار عوائد المكلفين» فلو كانت الشريعة كلفتهم بأحكام (كلية أو جزئية) غريبة عن واقعهم أوغير متسقة ومتناسبة مع ظروفهم الاجتماعية وأوضاعهم المعيشية معه لكان تكليفا بما لا يُطاق، فمواكبة الشريعة الإسلامية في كلياتها وجزئياتها للمبادئ الأخلاقية التي كان العرب يتمدحون بها قبل الإسلام وإبقائها على الكثير من الأحكام التي كانت قبل نزول الرسالة جارية التطبيق عندهم باعتبارها تطبيقا عمليا محمودا لهذه المبادئ مثل قطع يد السارق وصلب قاطع الطريق وتحريم لجمع بين الأختين والشفعة وأداء اليمين وغيرها من باقي الحكام الجزئية الأخرى التي اقتصر الاسلام على الاستمرار في تبني العمل بها لعدم تناقضها مع مبادئه الأخلاقية ومعايير التقوى الدينية المطلوبة، أملتها ضرورة أن أي نظام قانوني أوتشريع جديد، وحتى يضمن قبولا عاما داخل الوسط الذي شرع لأجله، عليه أن يحافظ على المستوى الأخلاقي العام لذلك الوسط حتى يضمن حدا أدنى من الطاعة الأخلاقية له والا بقي حروفا ميتة. «لذلك وجب دائما مراعاة العوائد الجارية»، فمثلا قد ثبت (بالنسبة لامة العرب التي نزل فيها الخطاب) أن «الزجر سبب الانكفاف عن المخالفة، فلولم يعتبر الشرع هذه العادة أوهذا الطبع في العرب) لم يتحتم القصاص (في القرآن ولم يشرع، فجاءت العقوبات فيه وفي جرائم الحدود عامة بحسب الطريقة المتعارف عليها والمقبولة بينهم في مجتمع العرب قبل نزول الرسالة وفي إبانها، فكان القتل والقطع والجلد والرجم والصلب، وهي «عقوبات تقررت في الجزئيات لا الكليات» كان العمل جاريا بها وبأساليبها عندهم في الجاهلية قبل الإسلام فأحكم القرآن منها ما احكم بعد ذلك، فلو جاءت أحكام العقوبات في الخطاب القرآني بأشكال لم يكن يعرفها العرب إبان تلك المرحلة، كالسجن الذي لم يكن معهودا عندهم مثلا، أو أن القرآن امتدح مرتكبي هذه الجرائم أو خصص لها عقوبات واهية أومبالَغ في شدتها في نظر العرب آنذاك، لكان مصيرها الرفض والرد، لأنها من جهة كانت ستسبب الحرج والمشقة لهم أثناء الامتثال لها وتكلفهم بما لا يُطيقونه، ومن جهة اخرى، لأنها كانت ستخرق العوائد الجارية بينهم وتحبط تطلعاتهم وانتظاراتهم، بل أكثر من ذلك، كانت ستأتي متناقضة مع «الاحكام الكلية »التي دعت معظم آيات القرآن إليها خلال المرحلة المكية التمهيدية من تنزيله. لذلك أكد الامام الشاطبي في غير ما مرة بضرورة مراعاة كليات الشريعة أثناء تنزيل أحكامها الجزئية التفصيلية، ف «المصالح المعتبرة هي الكليات دون الجزئيات» لأن هذه الأخيرة «قد تتطرق إليها الاحتمالات»، و«قد تتعطل كذلك، فلا يؤثر ذلك في عموم الشريعة لأنها، أي الشريعة»، لا تتعطل بتعطل بعض الجزئيات… إذ لا ضرر على الشريعة في ذلك «لأن المطلوب دائما هو المحافظة على قصد الشارع الكلي أثناء تطبيق النص الجزئي»، فعندما نقصد إقامة وتطبيق حكم جزئي، فيجب أن نضع نصب أعيننا مقصده الكلي العام، لأنه إذا تخلف عنه «تخلفت مصلحته بالتشريع». فإذا كان عمر ض قد أوقف العمل بحد القطع في جريمة السرقة عام الرمادة أو المجاعة، فلأن المقصد الكلي من تطبيق هذا الحكم الجزئي (القطع) والذي هو عموما إقامة العدل المقتضي هنا ضرورة حفظ المال، لن يتحقق. إذ رأى عمر أنه لم يكن ليكون عدلا «في ظل مجاعة عامة وشاملة» أن يقطع أيدي جميع المواطنين، لحالة الضرورة التي وجدوا عليها أنفسهم من جهة، ومن جهة أخرى، لأن القطع، وهوحكم جزئي، لن يحقق النتيجة المرجوة منه في هذه الحالة والتي هي الازدجار وبالتالي تحقيق مقصد حفظ المال، ما دام أنها مجاعة مستمرة في الزمان، إذ لو كان قد عمد الى قطع يد كل من سرق ليسد جوعه، لوجد نفسه، بعد ارتفاع حالة الجوع وحصول الشبع والرفاه، أمام جيش من العاطلين مقطوعي الأيدي وهو ما كان يراه ظلما وإضرارا بالمصالح الاقتصادية المستقبلية للمجتمع. فعمر في هذه النازلة المشهورة، بالاضافة الى أخذه بعين الاعتبار حالة الضرورة، راعى كذلك ما أطلق عليه الإمام الشاطبي لاحقا : «النظر الى مآلات الأحكام» وهو مقصد شرعي جد مهم سنذكر أهميته المنهجية في تطبيق الأحكام والتشريع لها.كانت هذه بشكل مختصر أهم المنطلقات الفكرية التي انطلق منها امام القرن الثامن الهجري بدون منازع، للقول بالاجتهاد والتشريع وفقا للمقاصد العامة للشريعة الإسلامية والتي هي في الأصل الأول «كليات أخلاقية» يميل إليها بالفطرة كل ضمير بشري، ويروم تحقيقها كل تجمع إنساني بغض النظر عن مكانه أو زمانه، قابلة لان تتنزل على الواقع وتتكيف معه بحسب الظروف والعوائد الثقافية والاقتصادية لكل مجتمع لكن حسبما يراه عقلاؤهم وذوي الفضل منهم «فالطبيعة البشرية، كما سيؤكد لاحقا القانونيون المعاصرون، واحدة في كل مكان وزمان، وإذا تعمقت في غورها فانك ستجد قواعد أخلاقية، أساسية، راسخة وستظل راسخة وفعالة». تكون دائما هي المنطلق والمعيار العام لأي تشريع أو قانون يصدر.لكن كيف يمكننا في ظل اعتناقنا لشريعة سمحة، عادلة ومنصفة لكلا الجنسين، قابلة بفضل كلياتها ومبادئها الاخلاقية الانسانية الأزلية للتكيف مع أي واقع، مراعية بطبيعتها لتبدل ظروف وعوائد الممتثلين لها، أن نقول اليوم بأحقية المرأة، ذلك النصف من المجتمع، في أن نجعل لها نصيبا في الإرث أكثر مما تستحقه حسب النص القرآني أو تأخذ مثل نصيب الذكر؟ هل صحيح أن هذه القسمة منصفة، لا زالت تحقق نفس العدل الذي حققته في مجتمع نزول الوحي والذي استمرت تحققه لقرون طويلة بعد ذلك نظرا لعدم تغير واقع هذا المجتمع خاصة بالنسبة للمرأة التي ظلت في الغالب، كل هذه القرون، قارة في بيتها، تحت زوج يعولها، ووحده من فرض عليه النص القرآني أن يخرج للاكتساب لها ولأبناءها؟ ثم ماذا لو أصبحت هذه المرأة تكتسب هي كذلك وتعول أبناءها وتشارك زوجها في «القوامة» المادية على أسرتهما، بل وحتى عليه إن لم يكن اكتسابه يكفي أو تعطل عنه؟ هل سيكون من العدل ان تكتسب المراة لها ولزوجها ثم عندما يموت هذا الأخير ينال «عصبته»، هذا المصطلح والمفهوم ذو الجذور الجاهلية القبلية، أغلب ما جنته من اكتسابها فلا يبقى لها منه سوى الثمن إن لم ينجبا أبناء؟ كيف يمكن لنا أن نقول اليوم بأن المرأة تنال نصف حظ الرجل لأن الاخير فُرِض عليه دينيا الإنفاق عليها في حين أنها اليوم أضحت مكتسبة مثلها مثله، تشاركه الند للند جميع الأعمال والمهن المدِرة للدخل؟ هل الطبيعة الاقتصادية لمجتمعنا والذي تفرض عليه اليوم، في ظل عولمة ثقافية واقتصادية وعلمية شاملة، الدخول في منافسة دائمة وشاملة وشرسة مع الاقتصادات الاخرى حتى نرفع إنتاجنا ونحسنه، أن نبقي نصف المجتمع الذي نعيش فيه حبيس الجدران الأربعة، مشلول الانتاج الفكري وعاطل العمل اليدوي والمهني، ونحرم بالتالي شركاتنا ومعاهدناومدارسنا ووو…….. من إبداع عقول وعمل وابتكار أيادي تشكل نصف المجتمع، مفضلين عوض ذلك أن يقبعن في بيوتهن. صحيح أن المرأة تلعب دورا مهما في تربية الأبناء وتنشئتهم، لكنها اليوم، وحسب آخر الاحصائيات الصادرة، لم تعد تنجب ذلك العدد الهائل من الأبناء والذي كان يصل فيما مضى الى التسعة أو العشرة أو أكثر، والذي كان يجعلها تمضي كل حياتها تربي الابن تلو الآن. اليوم، لم تعد المراة تنجب أكثر من ثلاثة أبناء على اكثر تقدير حسب نفس الاحصائيات، هذا لا يعني أنه علينا حرمانها من التعليم ومعانقة الحياة العملية، فالوضع الاقتصادي والعلمي المتدهور لأغلب الدول المسلمة اليوم والذي يفرض علينا أكثر من أي وقت مضى، البحث عن موطئ قدم بين الامم القوية والتطلع لمنافستها على جميع الأصعدة طبقا للآية الكريمة «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ورباط الخيل»، لم يعد يسمح لنا بإبقائها حبيسة البيوت بل يستوجب أن نبعث الروح في هذه العقول والايادي التي ظلت غير مُستثمَرة لقرون طويلة مضت، والتي لم تبدأ عموما في معانقة الحياة العملية والعلمية واختراقها شيئا فشيئا، إلا قبل حوالي خمسين سنة فقط، حتى أضحت اليوم تنتج وتكتسب في جميع المجالات المهنية والفكرية مثلها مثل الرجل. فالمطلوب اليوم هو أن نتكيف مع الواقع الجديد، المتغير جذريا، الذي أصبح عليه هذا النصف من المجتمع، ونُكيف بالتالي الشريعة في مفهومها العام، ككليات أخلاقية، معه،لا أن نفرض واقعا قديما عليه أفلحت الشريعة حقا في التكيف معه في وقت من الأوقات، فمادام أن الشريعة وردت وساوت بين نِصفيْ المجتمع في أغلب أحكامها الكلية والجزئية، فإن التقليل من حظ المرأة في أحكام الإرث أملته الظروف الاقتصادية والثقافية الخاصة بمجتمع نزول الوحي والذي أشرت الى بعض حقائقه التاريخية سابقا، أما وقد تغيرت هذه الظروف كليا، فيجب بالضرورة أن نعدل الأحكام الجزئية للإرث بصورة خاصة حتى تساير الأحكام الكلية وهي اقامة العدل وتحقيق مصلحة المجتمع عامة من خلال مصلحة الأسرة بشكل خاص باعتبارها النواة الأولى لهذا المجتمع ومرآته. فهل المراة اليوم عندما تأخذ نصيبها الحالي من الإرث سواء كان نصف أو ربعا أو ثمنا، أوتقبض أجرتها الشهرية أو مدخول عملها اليدوي أوالتجاري، تحتفظ به لنفسها؟ أغلب النساء بل كلهن يقمن بضخ ما حصلن عليه من ذلك لفائدة ومصلحة أسرتهن الصغيرة وأبناءهن بالدرجة الأولى، فأمام تكاليف الحياة المتصاعدة والمتنوعة، أصبح من مساوئ الأخلاق والشيم أن تحتفظ المرأة بنصيبها وتصرفه على نفسها بكل أنانية وتمنع أبناءها أو زوجها عنه اذا كانوا في حاجة اليه. لا أعتقد أن امرأة تفعل ذلك اليوم فالظروف الجديدة للمجتمع وحنينها الفطري يأبيان منها ذلك. ثم ان علة أومعنى أي حكم عملي مرتبط بظروفه بحيث يُفهم انطلاقا من الاطلاع على أسباب نزوله، «لأن الأصل في العادات (الأحكام العملية) الالتفات الى المعاني» و «الشارع توسع في بيان العلل والحكم في تشريع باب المعاملات…..وأكثر ما علل فيها بالمناسب الذي إذا عُرض على العقول تلقته بالقبول»، فهل عقولنا اليوم تقبل أن نطرد ونشرد تلك السيدة التي حضرت الى مكتبي، من منزلها هي وابنتها بِداعي تمكين عصبة زوجها المتوفى من الارث، وهل يعد من مكارم الاخلاق ومحاسن الشيم اللذان بُنيت عليهما الشريعة، أن يشارك الرجل أُجرة أومدخول زوجته المادي في الإنفاق على أبناءهما معا، وهووضع تجري به العوائد اليوم، ثم عند اقتسام الارث تنال المرأة فقط نصف حظ الرجل بدعوى أنه ينفق أوسينفق عليها مستقبلا عندما تصير زوجة، وهوأمر احتمالي، في حين أن الواقع الغالب هوغير ذلك، «فلنَسْتٓفْتِ قلوبنا» كما أوصى الإمام الغزالي، ثم إن الأحكام لا تُبنى على الاحتمالات بل على واقع مُتٓيٓقنٍ منه والعبرة فيها أن تأتي دائما حسب وبما جرت عليه العوائد المتجددة والظروف المستجدَّة، لا أن تظل متحكِّمة فيه فتصير حَرَجا على العباد وتكليفا لهم بما لا يُطاق وتخرج بالتالي عن معايير العدل الذي أمرت به الشريعة كحكم كلي محوري. فلوجَمٓدٓ عمر ض على حكم القطع في كل سرقة حدثت عام المجاعة، وهو وضع جديد وطارئ لم يكن يعرف أحد متى سيرتفع، لكان ظلما للعباد وإفسادا لعموم المجتمع وتهديدا لمستقبله وهو ما تنهى عنه الشريعة في مبادئها وكلياتها الأخلاقية.ثم لنتساءل مرة أخرى، ألا يوجد طيلة الأربعة عشر قرنا الماضية أي اجتهاد في هذا الشأن؟ ألم يثبت أن الخليفة عمر ض سبق له في اجتهاد لم يشتهر كغيره من الاجتهادات الاخرى، أن تجاوز القسمة الحرفية الواردة بالنص القرآني، المنظمة لعملية اقتسام التركة مانحا الزوجة أكثر من حظها المحدد؟ ذلك ما حدث في : قضیة عامر بن الحارث وزوجته حبیبة بنت زریق، التي ذكرھا ابن زمنین في منتخب الأحكام، وعزاھا لابن حبیب في الواضحة قائلا: والأصل في شركة الزوجین قضیة المذكورین؛ كان عامر قصارا وزوجته حبیبة ترقم الثیاب حتى اكتسبا مالا كثیرا، فمات عامر وترك أموالا، فأخذ ورثته مفاتیح المخازن والأجنة، واقتسموا، ثم قامت علیھم حبیبة المذكورة وادعت عمل یدھا وسعایتھا، فترافعت مع الورثة إلى أمیر المؤمنین سیدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقضى بینھما بالشركة نصفین فأخذت حبیبة النصف، والربع من نصیب الزوج بالمیراث لأنه لم یترك ولدا.هذه النازلة لم تشتهر كغيرها من النوازل التي أبدع فيها الخليفة عمر ض، فهل فقط لكونها نازلة تصب لصالح المرأة، جاءت في مجتمع غارق في ذكوريته الثقافية بل وظل كذلك لقرون طويلة، لم يتخلص فيها الرجل كما يجب من معتقداته القديمة السابقة على الإسلام ونظرته الدونية للنصف الآخر من المجتمع وهوما جعله يسكت عنها كما حاول السكوت سابقا على آيات الإرث كلها حسبما ورد في أخبار نزولها؟ما الذي جعل الكثير من الفقهاء، خصوصا المغاربة منهم، يشككون في صحة هذه الواقعة ومشروعيتها ويعتبرونها «تحريفا للشريعة» و «خرقا لفرائض الله التي قسمها بنفسه» و «تعطيلا لقواعد الإرث» و «تحايلا فقهيا على قاعدة لا اجتهاد مع النص»، بل أكثر من ذلك، وَسَمَ أحد الباحثين المعاصرين حق المرأة هذا، الذي أطلق عليه الفقهاء المغاربة لاحقا «حق الكد والسعاية» بكونه «عرف ذي طابع علمان»، أي وضعي لا يمت الى الشريعة الاسلامية بأية صلة بالرغم من أنه «أمر قديم قُضِيَ به في صدر الإسلام» حسبما أوضحه فقيه مغربي آخر. الواقع أنه بغض النظر عن التسمية التي أُطلِقت على هذا الحق، وبغض النظر عما إذا كان عمل الصحابي يعد حجة أولا، وبغض النظر كذلك عن مختلف محاولات التكييف التي حاول الفقهاء إِصباغها على حق الكد والسعاية هذا كاعتباره مثلا عقد إجارة الخدمة أو حق عرفي إسلامي أو أنه يتعين تطبيق قواعد الملكية الشائعة عليه، وهذه كلها مُسَميات ومصطلحات مُحْدَثة لم يكن يعرفها الخليفة عمر، فإن الأخير رضوان الله عليه، رأى فقط وبكل بساطة، أنه ليس عدلا وإنصافا أن يُثرِيَ ويَتَموّل أغيار على حساب عمل وكد المرأة المسماة في هذه النازلة حبيبة بنت زريق، إذ كان سيكون ظلما لها واضرارا بها وتعسفا عليها لو تم حرمانها من ثروة جمعتها بعرق جبينها، فما كان منه إلا أن استبعد قسمة الإرث الحرفية ويُعَدلها بقسمة أخرى موضوعية وعادلة، لأن العدل، كمفهوم معنوي كلي، هوما تحض عليه الشريعة في كلياتها ومبادئها الاخلاقية العامة، فكما كان يقول سابقا الامام ابن عقيل : «أي طريق استُخرِجَ به العدل والقسط فهومن الدين وليس مخالف له، وإن أمارات العدل إذا ظهرت بأي طريق كان، فهناك شرع الله ودينه».فاجتهاد عمر ض جرى في هذه النازلة وفق ما يقتضيه المنطق والحس السليمين اللذان فرضا نفسهما كواقع يقتضيه كل ضمير عادل، بحيث كان بإمكان أي شخص عاقل وفاضل ذي ضمير متزن ومتيقظ، عرضت عليه هذه النازلة في ذلك الوقت أن يفصل فيها وفق ما فصل فيها الفاروق، فالشريعة في عمومها «لا تنافي قضايا العقول» و«التكاليف الشرعية ومقاصدها الكلية المتصلة بالضوابط العملية جارية بالتالي على مقتضى العقل» ذلك أن «الله ورسوله لم يخبرا بما يناقض صريح العقل ولم يشرعا ما يناقض الميزان والعدل» ابن القيم 332_2 وكما يقول ابن القيم «الشريعة عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة، فكل مسألة خرجت من العدل الى الجور وعن الرحمة الى ضدها وعن المصلحة الى المفسدة وعن الحكمة الى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل…» ابن القيم 14-2. الواقع أن الخليفة عمر انطلق في هذه النازلة، وفي غيرها من نوازل اجتهاداته المشهورة، من مبدأ مفاده أن طرق الحكم بالعدل أوسع من حروف الأحكام التشريعية المفروضة التطبيق، فقد اعتبر أن قسمة الإرث كما أوردها النص القرآني، ليست معيارا دائما ولا نهائيا للعدل والذي هوحكم كلي ومقصد أزلي ثابت تتمحور حوله الشريعة وتبنى عليه جميع الأحكام والاجتهادات، لقد تبين له أن التطبيق الحرفي لهذا النص أو لهذا الأمر الجزئي على هذه الواقعة لا يحقق مقصد العدل الذي تروم الشريعة اليه بل بالعكس تخرمه، فما كان منه إلا أن حكم وفق ما تقتضيه معايير العدالة لا ما تفرضه حروف النصوص الجزئية.وبلغتنا القانونية المعاصرة، انطلق عمر من الفكرة القائلة بأن «مفهوم العدل أوسع من مفهوم القانون»، فالعدل كمفهوم ذهني أو كفكرة نظام عقلاني ومتماسك، تجعله يعمل كمبدأ أصولي أو إجرائي أكثر مما هو جوهر أو نصوص قانونية مفصلة. صحيح أن المعيار الوحيد للعدل يكون عادة هو القانون ذاته، كما يقول هوبز «بحيث أن كل قاعدة يضعها القانون يجب كأمر واقع أن تكون عادلة في ذاتها» لكن التمسك دائما بحرفية النصوص، كثيرا ما يؤدي الى الوقوع والحكم بالظلم، وقديما عبر السيد المسيح عليه السلام عن هذا الواقع منتقدا أولئك المنافقين من رجال القانون قائلا لهم «سحقا لكم يا رجال القانون لأنكم تتشبثون بالتطبيق الحرفي والتقني للقانون فيما لا تعيرون أي اهتمام للأمور الأكثر أهمية له وهي العدالة والرحمة والإخلاص»، لذلك كان من الضروري التخفيف من حدة النصوص القانونية عن طريق فكرة الإنصاف كما قال أرسطو والاستنجاد بروحها لتطوير النص الحرفي الجامد له بشكل يجعله أكثر عدلا وانسانية…من جهة أخرى، جاء هذا الاجتهاد المبكر للخليفة عمر في وقت لم تكن فيه تعقيدات استنباط الحكم الشرعي قد ظهرت بعد، فمعلوم أن علم أصول الفقه والذي هو عبارة عن قانون كلي يرجع إليه في معرفة أدلة الشريعة وترجيحاتها لاستنباط الأحكام الشرعية منها والاجتهاد في النوازل والقضايا الطارئة وفقها، لم تظهر الا مع الامام الشافعي في القرن الثالث الهجري، بحيث رام من وراء وضعه توضيح القواعد والضوابط الكفيلة بالفهم عن النص والفقه فيه وكذلك تجاوز الاختلاف وضبط التأويل ومحاولة توحيد الرؤية والوسائل الناجعة والمشروعة لأجل ذلك (ص472 اشكالية السلطة العلمية في الإسلام للدكتور عبد المجيد الصغير،) أما قبل الشافعي فقد كان الناس يتكلمون فيها ويستدلون دون ان يكون لهم قانون كلي يضبط ذلك. فالاجتهاد اتخذ في تلك الأزمنة طابعا عمليا لا نظريا . ((نقد العقل العربي للدكتور محمد عابد الجابري).ما أود أن أوضحه في هذه النقطة هوأن اجتهاد عمر جاء دون المرور بهذه المسطرة التي ابتكرها الإمام الشافعي لاحقا وعمق مباحثها اللغوية الأصوليون بعده حتى صارت هذه المباحث أغلب ما صنف في هذا العلم. فهذه «الصناعة الموسومة بصناعة الفقه لم يكن الصحابة محتاجين إليها» و «لم يبلغنا عنهم الخوض فيها…كما لم يأت ذلك عن صاحب الشريعة» لأنه «عليه الصلاة والسلام كان ينهى عن التعمق والتكلف والدخول تحت ما لا يطاق حمله لأن هذا كله أقرب الى الانقياد وأسهل في التشريع للجمهور». وعلى هذا المنوال جرت اجتهادات الصحابة و «السلف الصالح في بث الشريعة للمؤلف والمخالف، ومن نظر في استدلالهم على إثبات الأحكام التكليفية، علم أنهم قصدوا أيسر الطرق وأقربها الى عقول الطالبين لكن من غير ترتيب متكلف ولا نظم مؤلف» فجاءت اجتهاداتهم نتيجة لذلك «قريبة المأخذ، سهلة الملتمس»، أما لوافترضنا «أن عرضت قضايا ومصطلحات علم الأصول، ومفاهيمه المتداولة التي لا تخلو من الغموض والتعقيد، مثل الجمع والفرق والنقض والمنع والقلب وفساد الوضع، على أصحاب رسول الله، لتعبوا في فهمها إذ لم يكن لهم عهد بها».إن هذا الاجتهاد أو الفهم المتجاوز لحرفية نص صريح واضح الصيغة والدلالة والصادر عن صحابي كان القرآن ينزل وفق رأيه وقيل عنه أنه ذهب بتسعة أعشار العلم فكان الفقهاء عنده مثل الصبيان (اعلام ج1 ص 15-18)، لا يمكن في الواقع استيعابه أكثر ومن ثم الاحاطة بأسرار تجاوزه لنص صريح واضح الصيغة والدلالة الحرفية ومجاراته مع ذلك للشريعة الا من جهة قراءة متانية لرسالته في القضاء التي وجهها الى أبي موسى الشعري والتي ضمنها أسلوب اجتهاده وفق الشريعة التي شاهدها وهي تنزل فعرف تأويلها وفهم مقاصد الرسول وما أراد، اذ وحسب شرح هذه الرسالة من أحد أكابر الأئمة وهوالامام ابن القيم الجوزية، فإن المفتي أو الحاكم لا يتمكن من الحق إلا بنوعين من الفهم «أوله فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما، أما ثانيه فهوفهم الواجب في الواقع وهوفهم حكم الله اللذي حكم في كتابه أوعلى لسان قوله في هذا الواقع ثم يطبق أحدهما على الآخر».ما يمكن أن يستشف من أسلوب عمر في الاجتهاد وتجاوزه في الكثير من الأحيان لحرفية النص، «على اعتبار أن الشريعة لم تنص على حكم كل جزئية على حدتها»، هو أخذه عموما بما يتطلبه الحكم بالعدل كأحد الكليات والمثل الأخلاقية الكبرى للشريعة وانصاف كل طرف متنازع وفق ما يقتضيه ذلك وكل هذا بعد فهمه فهما جيدا وقائع النوازل المستجدة التي طرأت عليه والتمييز فيها بنظره العقلي وتجربته المجتمعية التي اكتسبها من انتماءه ثقافيا وذهنيا وعاداتيا لذات المجتمع، بين المدعي بالحق والمدعي بالباطل ولوفي صورة الحق وذلك «بحسب كل مقام وعلى ما تعطيه شواهد الأحوال في كل موضع، لا على وزان واحد ولا على حكم واحد». وعلى هذا الأساس جاء الغاؤه لسهم المؤلفة قلوبهم رغم النص عليه بصيغة آمرة في الخطاب القرآني وذلك بحجة ارتفاع الغاية والمقصد الشرعيين من وضعه وكذلك لما كان سيؤدي اليه من اثراء للغير بلاسبب وبدون وجه حق وهوما عده آنذاك استنزافا غير مبرر لبيت مال المسلمين وظلما لمن هوأحوج منه من فقراءهم ومساكينهم.البساطة وعدم التكلف والنظر العقلي ومراعاة العوائد والأعراف الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي «يفصح نظم القرآن وروحه العامة على قبولها» وتنزيل الكليات الأخلاقية المكية عليها إن لم تسعف الأحكام الجزئية او أدى تطبيق هذه الأحكام الى احداث ضرر بالمكلفين أو خرق مبدأ العدل، هي السمات البارزة التي طبعت عملية اجتهادات الصحابة وتشريعاتهم خلال الصدر الأول للإسلام، ذلك أنه «مع غلبة الاتجاه الخلقي على التشريعات القرآنية من حيث السمة» وهو الواقع الذي أكده الإمام الشاطبي غير ما مرة، ومع قلة وتناهي الأحكام الشرعية التي «اختصت بالموضوعات القانونية البحتة» بدا «ما قدمته نصوص القرآن من أحكام وقواعد» إنما تمثل في البناء التشريعي نقطة الانطلاق الذي أكملته جهود الأجيال المتتابعة من المسلمين «فمعظم المفاهيم الأساسية والحيوية التي يقوم عليها أي مجتمع متحضر عبر عنها القرآن فيما يشبه أن يكون الزاما خلقيا فقط. فالرحمة بالضعاف في المجتمع ونفي الغبن في المعاملات التجارية وعدم الميل والحيف في تحقيق العدالة… كل هذه المفاهيم ترد في القرآن باعتبارها معايير السلوك المطلوبة، دون أن تترجم الى بناء قانوني للحقوق والواجبات من أي نوع». فمثلا نص القرآن على تحريم الخمر لكن «دون أن يتضمن اشارة الى النتائج القانونية العملية لهذا التحريم» غير أن الذي حدث هوانه مع استفحال ظاهرة شربه وما يترتب عن ذلك من مضار اجتماعية، ومع عدم إسعاف تحريمه دينيا خلقيا فقط، فقد اعتبره الصحابة جريمة يجب التفكير في وضع عقاب مادي لها تم تقديره في البداية بأربعين جلدة ثم ما لبثت أن ارتفعت عقوبتها الى ثمانين مع اشتداد استفحالها في عهد الخليفة عمر. هي موضوعات كثيرة لم يتعرض لها القرآن واجهت الصحابة في بداية الأمر، حتمت عليهم التدخل ووضع حلول تشريعية جزئية لها، فعلى سبيل المثال، وفي نازلة ارثية لم يتعرض لها النص القرآني وهي المشهورة ب«المسألة الحمارية»، لم يجد الخليفة عمر بدا من الاقتناع باحتجاج الأخوين الشقيقين للهالكة باشراكهما في الثلث مع الأخوين للأم، بعد أن كان رأيه قد استقر على حرمانهما منه. ان هذه الواقعة تبين بساطة العملية التشريعية آنذاك بحيث أنها من جهة «لم تكن امتيازا لجهة رسمية معينة «بل كان باستطاعة أي كان أن يدلي بوجهة نظره شريطة أن تكون منطقية ومقبولة اجتماعيا، فضلا عن ضرورة تماهيها مع معايير العدالة الاجتماعية والأخلاق الكريمة التي بشر بها القرآن الكريم، ولعل واقعة تلك المراة البسيطة التي أخذ عمر برأيها متراجعا عن رأيه عندما احتجت عليه على عزمه وضع سقف مالي معين للصداق، تدل أيضا على ذلك. فمثل هذه الموضوعات التي سكت عنها النص القرآني والتي واجهت الصحابة بعد وفاة الرسول ص، ودفعتهم اما للتدخل وإيجاد أحكام وتدابير جديدة ملائمة لها، أو جعلتهم يوقفون العمل ببعض الأحكام الجزئية رغم النص عليها بشكل صريح في الخطاب القرآني أو بإلغائها أو تعديلها، جاءت في وقت لم يكن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم قد جمع بعد ولا نظرية الإمام الشافعي ومسطرته في استنباط الحكم الشرعي قد ظهرت. انها فقط اجتهادات تأسست على «مبادئ القرآن التشريعية» الأخلاقية الكلية بشكل أساسي وعلى «الإحساس العام والمواضعات المألوفة» لذلك المجتمع الذي صدرت فيه، فالصحابة، كما سبق أن وصفهم أحد كبار الأئمة، كانت أفهامهم فوق أفهام جميع الأمة، وعلمهم بمقاصد نبيهم ص وقواعد دينه وشرعه أتم من علم كل من جاء بعدهم، فقد كانوا أقل الناس تكلفا في التشريع، إذ لم يرتضوا لأنفسهم عبارات المتأخرين (يقصد المتأخرين من الفقهاء) ، قصدوا أيسر الطرق وأقربها الى عقول الطالبين لكن من غير ترتيب متكلف ولا نظم مؤلف فجاءت اجتهاداتهم نتيجة لذلك «قريبة المأخذ، سهلة الملتمس» ولائقة آنذاك بالجمهور، عدلا ومصلحة……، لذلك كان أحد الباحثين الغربيين على حق عندما وصف بدقة هذه الفترة الاستثنائية والخالدة من تاريخ تطور الفقه الاسلامي والتي شكلت محور اجتهاداتهم المشهورة بكونها فترة «تفوقت فيها العدالة الاسلامية على القانون الاسلامي». محمد نجيب البقاش