مقال الرأي في الإرث محمد نجيب البقاش

ترددت‭ ‬كثيرا‭ ‬قبل‭ ‬كتابة‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع،‭ ‬لكن‭ ‬صورة‭ ‬تلك‭ ‬السيدة‭ ‬الاربعينية‭ ‬التي‭ ‬زارتني‭ ‬يوما‭ ‬بمكتبي‭ ‬بقسم‭ ‬قضاء‭ ‬الاسرة‭ ‬بالمحكمة‭ ‬الابتدائية‭ ‬بالقصر‭ ‬الكبير،‭ ‬لم‭ ‬تشأ‮ ‬أن‭ ‬تغادر‭ ‬ذاكرتي‭ ‬قط‭ ‬رغم‭ ‬مرور‭ ‬سنوات‭ ‬كثيرة‭. ‬وحتى‭ ‬أكون‭ ‬صريحا،‭ ‬فهي‭ ‬من‭ ‬دفعتني‭ ‬دفعا‭ ‬للتجرؤ‭ ‬على‭ ‬إبداء‭ ‬موقفي‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع‭ ‬الشائك‭ ‬وإن‭ ‬جاء‭ ‬ذلك‭ ‬متأخرا‭.‬

كانت‭ ‬عشية‭ ‬باردة‭ ‬وممطرة‭ ‬من‭ ‬شتاء‭ ‬سنة‭ ‬2006‭ ‬عندما‭ ‬استأذنتني‭ ‬هذه‭ ‬المرأة‭ ‬بخجل‭ ‬شديد‭ ‬للدخول‭ ‬هي‭ ‬وابنتها‭. ‬كانت‭ ‬علامات‭ ‬الحزن‭ ‬والاسى‭ ‬بادية‭ ‬على‭ ‬محياهما‭ ‬كأنها‭ ‬تعكس‭ ‬صورة‭ ‬السماء‭ ‬المتجهمة‭ ‬الذي‭ ‬أظهرته‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬النهار‭ ‬الكئيب‭. ‬من‭ ‬لباس‭ ‬الفتاة‭ ‬ومظهرها‭ ‬العام،‭ ‬أدركت‭ ‬أنها‭ ‬لم‭ ‬تتجاوز‭ ‬الخامسة‭ ‬عشر‭ ‬من‭ ‬عمرها‭ ‬وأنها‭ ‬لا‭ ‬زالت‭ ‬تلميذة‭ ‬ترتاد‭ ‬الإعدادية‭ ‬أوالثانوية‭ ‬على‭ ‬أبعد‭ ‬تقدير‭. ‬أشرت‭ ‬اليهما‭ ‬بالجلوس،‭ ‬ثم‭ ‬استفسرت‭ ‬السيدة‭ ‬عن‭ ‬سبب‭ ‬زيارتها‭. ‬أجابتني،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أطلقت‭ ‬تنهيدة‭ ‬عميقة،‭ ‬أن‭ ‬زوجها‭ ‬توفي‭ ‬قبل‭ ‬ستة‭ ‬أشهر‭ ‬وأنه‭ ‬ترك‭ ‬ما‭ ‬يورث‭ ‬عنه‭ ‬شرعا‭ ‬منزلا‭ ‬متواضعا‭ ‬مساحته‭ ‬لا‭ ‬تتعدى‭ ‬الستين‭ ‬مترا،‭ ‬مكونا‭ ‬من‭ ‬غرفتين‭ ‬صغيرتين‭ ‬ومطبخ‭ ‬وصالون‭ ‬بالكاد‭ ‬يكفيهما‭ ‬معا،‭ ‬غير‭ ‬انها‭ ‬فوجئت‭ ‬بإخوة‭ ‬زوجها‭ ‬الذكور‭ ‬في‭ ‬الآونة‭ ‬الاخيرة‭ ‬يخبرونها‭ ‬بأنهم‭ ‬يعتزمون‭ ‬رفع‭ ‬دعوى‭ ‬قسمة‭ ‬هذا‭ ‬المنزل‭ ‬لاستيفاء‭ ‬نصيبهم‭ ‬الشرعي‭ ‬المنجر‭ ‬لهم‭ ‬إرثا‭ ‬من‭ ‬أخيهم‭ ‬الهالك‭. ‬احتجت‭ ‬المرأة‭ ‬يكون‭ ‬المسكن‭ ‬الصغير‭ ‬هو بالكاد‭ ‬يأويها‭ ‬رفقة‭ ‬ابنتها‭ ‬وأنه‭ ‬من‭ ‬المستحيل‭ ‬ان‭ ‬تقبل‭ ‬ان‭ ‬يساكنها‭ ‬احد‭ ‬اخر‭.‬صمتت‭ ‬للحظة‭ ‬ثم‭ ‬اوضحت‭ ‬لها‭ ‬بأن‭ ‬نصيبها‭ ‬فيه‭ ‬حسب‭ ‬الشريعة‭ ‬الاسلامية‭ ‬المطبقة‭ ‬هو الثمن‭ ‬ونصيب‭ ‬ابنتها‭ ‬هو النصف‭ ‬فيما‭ ‬الباقي‭ ‬يعود‭ ‬لإخوة‭ ‬زوجها،‭ ‬أخبرتها‭ ‬ان‭ ‬المحكمة،‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الحالات،‭ ‬قد‭ ‬تعمد‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬تعذر‭ ‬قسمته‭ ‬عينا،‭ ‬الى‭ ‬بيعه‭ ‬بالمزاد‭ ‬العلني‭ ‬واقتسام‭ ‬ثمنه‭ ‬بين‭ ‬جميع‭ ‬الورثة‭ ‬بحسب‭ ‬الأنصبة‭ ‬المبينة‭ ‬أعلاه،‭ ‬وفي‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬يمكنها‭ ‬ان‭ ‬تتدبر‭ ‬الامر‭ ‬وتدفع‭ ‬لهم‭ ‬حظهم‭ ‬الشرعي‭ ‬هذا‭ ‬نقدا‭ ‬وتتخلص‭ ‬نهائيا‭ ‬من‭ ‬جشعهم‭. ‬أجابتني‭ ‬بأنها‭ ‬امرأة‭ ‬فقيرة‭ ‬معدمة‭ ‬لا‭ ‬مدخول‭ ‬قار‭ ‬لها،‭ ‬فبعد‭ ‬وفاة‭ ‬زوجها‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يشتغل‭ ‬بناءا،‭ ‬والذي‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬حياته‭ ‬معيلهما‭ ‬الوحيد،‭ ‬اضطرت‭ ‬الى‭ ‬أن‭ ‬تشتغل‭ ‬كخادمة‭ ‬في‭ ‬بيوت‭ ‬بعض‭ ‬العائلات‭ ‬ومرة‭ ‬مياومة‭ ‬في‭ ‬الحقول‭ ‬ان‭ ‬اقتضى‭ ‬الامر،‭ ‬وانها‭ ‬بالكاد‭ ‬تستطيع‭ ‬تغطية‭ ‬مصاريف‭ ‬عيشها‭ ‬ودراسة‭ ‬ابنتها‭ ‬المتفوقة‭. ‬سألتها‭ ‬عما‭ ‬اذا‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬سبق‭ ‬لها‭ ‬ان‭ ‬استعطفت‭ ‬إخوة‭ ‬زوجها‭ ‬للتراجع‭ ‬عن‭ ‬موقفهم‭ ‬أوالتنازل‭ ‬لها‭ ‬عن‭ ‬نصيبهم‭ ‬البسيط‭ ‬في‭ ‬المنزل‭ ‬حفاظا‭ ‬على‭ ‬مصلحة‭ ‬ابنة‭ ‬أخيهم‭ ‬ومراعاة‭ ‬لمستقبلها‭ ‬وسنها‭ ‬الحرج،‭ ‬أجابتني‭ ‬بأنها‭ ‬حاولت‭ ‬ذلك‭ ‬مرات‭ ‬متكررة‭ ‬وأحيانا‭ ‬بتدخل‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬الخير‭ ‬لكن‭ ‬دون‭ ‬جدوى،‭ ‬‮«‬لا‭ ‬يمكنك‭ ‬سيدي‭ ‬أن‭ ‬تتصور‭ ‬كيف‭ ‬هم‭ ‬غلاظ‭ ‬القلب،‭ ‬لم‭ ‬يكلفوا‭ ‬نفسهم‭ ‬حتى‭ ‬عيادة‭ ‬أخيهم‭ ‬وهوفي‭ ‬مرض‭ ‬موته‮»‬‭ ‬أضافت‭ ‬متحسرة‭. ‬صمتت‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬للحظات‭ ‬لا‭ ‬أدري‭ ‬بما‭ ‬أجيبها،‭ ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬لي‭ ‬ان‭ ‬أوضح‭ ‬لها‭ ‬ان‭ ‬دور‭ ‬المحكمة‭ ‬هوتطبيق‭ ‬القانون‭ ‬ولا‭ ‬مآل‭ ‬آخر‭ ‬لقضيتها‭ ‬سوى‭ ‬ما‭ ‬أخبرتها‭ ‬به،‭ ‬عندها‭ ‬قاطعت‭ ‬شرودي‭ ‬قائلة‭ ‬بنبرة‭ ‬يائسة‭ ‬وهي‭ ‬تقف‭ ‬تعتزم‭ ‬المغادرة‭ : ‬إذن‭ ‬لا‭ ‬أمل،‭ ‬أليس‭ ‬كذلك؟‭ ‬هل‭ ‬معنى‭ ‬هذا‭ ‬أننا،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تحكموا‭ ‬القضية،‭ ‬سنذهب‭ ‬للشارع؟‭ ‬هل‭ ‬معنى‭ ‬هذا‭ ‬أن‭ ‬شريعتنا‭ ‬الاسلامية‭ ‬التي‭ ‬ستحكمون‭ ‬بها‭ ‬توافق‭ ‬على‭ ‬تشريد‭ ‬أسرة‭ ‬بكاملها‭ ‬وترضى‭ ‬بتعريض‭ ‬مستقبل‭ ‬بناتها‭ ‬الصغار‭ ‬للمجهول؟‭ ‬ألا‭ ‬يمكنكم‭ ‬أن‭ ‬تمنعوا‭ ‬حصول‭ ‬هذا؟‭ ‬بالله‭ ‬عليك‭ ‬هل‭ ‬ترى‭ ‬هذا‭ ‬عدلا؟‭ ‬كيف‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬أغادر‭ ‬منزلا‭ ‬أقمت‭ ‬فيه‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬عشرين‭ ‬سنة‭ ‬وأشرد‭ ‬بنتاي‭ ‬منه‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أن‭ ‬يغنم‭ ‬اخوة‭ ‬زوجي‭ ‬حفنة‭ ‬من‭ ‬الدراهم؟‭ ‬هل‭ ‬تعتقد‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬بيعه‭ ‬سأشتري‭ ‬منزلا‭ ‬يوازيه،‭ ‬أنا‭ ‬متأكدة‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬المبلغ‭ ‬الذي‭ ‬سأحصل‭ ‬عليه‭ ‬لن‭ ‬يكفي‭ ‬حتى‭ ‬لشراء‭ ‬براكة‭ ‬في‭ ‬أطراف‭ ‬المدينة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬يطوفني‭ ‬السماسرة‭ ‬عليها‭ ‬طولا‭ ‬وعرضا‭.‬

الواقع‭ ‬ان‭ ‬حالة‭ ‬هذه‭ ‬المرأة‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬هي‭ ‬المناسبة‭ ‬الوحيدة‭ ‬التي‭ ‬واجهت‭ ‬فيها‭ ‬رفقة‭ ‬زملائي‭ ‬قصة‭ ‬مأساوية‭ ‬بهذا‭ ‬الشكل،‭ ‬نساء‭ ‬عديدات‭ ‬وجدن‭ ‬أنفسهن‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬فاجأ‭ ‬الموت‭ ‬أزواجهن‭ ‬معرضات‭ ‬للطرد‭ ‬من‭ ‬بيوتهن‭ ‬التي‭ ‬وقرن‭ ‬فيها‭ ‬لسنوات‭ ‬طوال،‭ ‬فقط‭ ‬لأنهن‭ ‬لم‭ ‬تجنبن‭ ‬الولد‭ ‬الذكر‭ ‬الذي‭ ‬سيقيهن‭ ‬تدخل‭ ‬‮«‬عصبة‮»‬‭ ‬الهالك‭ ‬أوسيؤجل،‭ ‬على‭ ‬الاقل،‭ ‬عملية‭ ‬قسمته‭ ‬أوبيعه‭ ‬مزادا‭ ‬الى‭ ‬ان‭ ‬يتوفاهن‭ ‬الأجل‭. ‬صحيح‭ ‬أنه‭ ‬أحيانا‭ ‬تفلح‭ ‬هاته‭ ‬السيدات،‭ ‬ضحايا‭ ‬نصيبهن‭ ‬الضئيل‭ ‬في‭ ‬إرث‭ ‬أزواجهن‭ ‬أوآبائهن،‭ ‬في‭ ‬إقناع‭ ‬عصبته‭ ‬بتدخل‭ ‬ووساطة‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬الخير‭ ‬وذوي‭ ‬النيات‭ ‬الحسنة،‭ ‬للتنازل‭ ‬عن‭ ‬حقهم‭ ‬في‭ ‬المنزل‭ ‬الوحيد‭ ‬الذي‭ ‬خلفه‭ ‬أخوهم‭ ‬أوابن‭ ‬عمهم‭ ‬الهالك‭ ‬مراعاة‭ ‬لظروف‭ ‬أرملته‭ ‬الاجتماعية‭ ‬وبناتها،‭ ‬وأخذا‭ ‬بعين‭ ‬الاعتبار‭ ‬للسنوات‭ ‬الطويلة‭ ‬من‭ ‬العلاقة‭ ‬الزوجية‭ ‬أو‮«‬الميثاق‭ ‬الغليظ‮»‬،‭ ‬حسبما‭ ‬وصفه‭ ‬بدقة‭ ‬النص‭ ‬القرآني،‭ ‬الذي‭ ‬جمعها‭ ‬بزوجها‭ ‬المتوفى،‭ ‬والذي‭ ‬يمتد‭ ‬أحيانا‭ ‬الى‭ ‬الخمسين‭ ‬عاما‭ ‬من‭ ‬الارتباط‭ ‬والمساكنة‭ ‬المستقرة‭. ‬لكن‭ ‬حالة‭ ‬هاته‭ ‬السيدة‭ ‬كانت‭ ‬أكثر‭ ‬مأساوية‭ ‬واستفزازا‭. ‬فبغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬الحفنة‭ ‬من‭ ‬الدراهم‭ ‬التي‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحالة،‭ ‬سيغنمها‭ ‬إخوة‭ ‬الزوج‭ ‬من‭ ‬بيع‭ ‬المنزل‭ ‬الى‭ ‬الغير‭ ‬والتي‭ ‬ستقلب‭ ‬بكل‭ ‬تأكيد‭ ‬الحياة‭ ‬المستقرة‭ ‬والهادئة‭ ‬لهذه‭ ‬الاسرة‭ ‬الضعيفة‭ ‬رأسا‭ ‬على‭ ‬عقب،‭ ‬فإن‭ ‬طبيعة‭ ‬التساؤلات‭ ‬التي‭ ‬احتجت‭ ‬بها‭ ‬هذه‭ ‬الأرملة‭ ‬كانت‭ ‬مختلفة‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬الحالات‭ ‬المشابهة‭ ‬التي‭ ‬واجهتنا‭ ‬سابقا‭ ‬والتي‭ ‬كانت‭ ‬تجعلنا،‭ ‬كقضاة‭ ‬مطبقين‭ ‬للقانون،‭ ‬مكتوفي‭ ‬الايدي‭ ‬ومبتلعي‭ ‬اللسان‭ ‬أمام‭ ‬نص‭ ‬تشريعي‭ ‬وقسمة‭ ‬مقدسة،‭ ‬قرآنية‭ ‬المصدر،‭ ‬غير‭ ‬قابلة‭ ‬لأي‭ ‬اجتهاد‭ ‬بل‭ ‬ولا‭ ‬يقبل‭ ‬مجتمعنا‭ ‬الديني‭ ‬المحافظ‭ ‬أدنى‭ ‬مناقشة‭ ‬حولها‭. ‬فغالبية‭ ‬هاته‭ ‬النساء،‭ ‬ورغم‭ ‬الوضعية‭ ‬الحرجة‭ ‬التي‭ ‬يجدن‭ ‬فيها‭ ‬أنفسهن‭ ‬فجأة‭ ‬والمستقبل‭ ‬الراجح‭ ‬تعاسته‭ ‬الذي‭ ‬ينتظرهن،‭ ‬يلذن‭ ‬بالصمت‭ ‬امتثالا‭ ‬لقدسيته‭ ‬الدينية‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬لكنه‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬صمت‭ ‬يستبطن‭ ‬كل‭ ‬أنواع‭ ‬الآلام‭ ‬ويضمر‭ ‬جميع‭ ‬أشكال‭ ‬التحسر،‭ ‬فالنساء،‭ ‬ذلك‭ ‬النصف‭ ‬من‭ ‬المجتمع‭ ‬والذي‭ ‬استوصى‭ ‬رسولنا‭ ‬الكريم‭ ‬ص‭ ‬به‭ ‬خيرا،‭ ‬تأبين‭ ‬عادة‭ ‬التعبير‭ ‬عنه،‭ ‬باستثناء‭ ‬طبعا‭ ‬هذه‭ ‬السيدة‭ ‬التي‭ ‬من‭ ‬أجلها‭ ‬أكتب‭ ‬هذا‭ ‬المقال‭ ‬الذي‭ ‬آن‭ ‬أوانه‭ ‬والتي‭ ‬أتمنى‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الله،‭ ‬بعد‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬السنوات‭ ‬التي‭ ‬مضت،‭ ‬قد‭ ‬فعل‭ ‬بها‭ ‬وببنتها‭ ‬خيرا‭.‬‮ ‬

حقا‭ ‬هي‭ ‬تساؤلات‭ ‬جريئة‭ ‬أطلقتها‭ ‬المرأة‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ : ‬هل‭ ‬ترى‭ ‬هذا‭ ‬عدلا،‭ ‬هل‭ ‬ترضى‭ ‬الشريعة‭ ‬أن‭ ‬تشرد‭ ‬أسرة‭ ‬ضعيفة‭ ‬كلها‭ ‬نسوة‭ ‬وتلقي‭ ‬بها‭ ‬الى‭ ‬الشارع‭. ‬إنها‭ ‬تساؤلات‭ ‬تحرك‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬مشاعر‭ ‬كل‭ ‬ذي‭ ‬قلب‭ ‬وتستفز‭ ‬منطق‭ ‬كل‭ ‬ذي‭ ‬عقل،‭ ‬فهل‭ ‬فعلا،‭ ‬تساءلت‭ ‬مع‭ ‬نفسي‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬غادرت‭ ‬هذه‭ ‬السيدة‭ ‬المحبطة‭ ‬وبنتها‭ ‬مكتبي،‭ ‬ترضى‭ ‬شريعتنا‭ ‬الاسلامية،‭ ‬العقلانية‭ ‬والسمحة،‭ ‬التي‭ ‬بفضلها‭ ‬اعتناقها‭ ‬نحن‭ ‬خير‭ ‬أمة‭ ‬للناس،‭ ‬ان‭ ‬يشكل‭ ‬تطبيقها‭ ‬تهديدا‭ ‬حقيقيا‭ ‬لمستقبل‭ ‬هذه‭ ‬الاسرة‭ ‬وخطرا‭ ‬محدقا‭ ‬على‭ ‬المآل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬لبنتها‭ ‬الصغيرة،‭ ‬كيف‭ ‬سيكون‭ ‬مصيرها‭ ‬بعد‭ ‬ان‭ ‬يتم‭ ‬بيع‭ ‬منزلهم‭ ‬مزادا‭ ‬وما‭ ‬أدراك‭ ‬ما‭ ‬تخفيه‭ ‬مسطرة‭ ‬المزاد؟‭ ‬فبالنسبة‭ ‬لهذه‭ ‬الحالة،‭ ‬توقعت‭ ‬آنذاك‭ ‬إلا‭ ‬يزيد‭ ‬مبلغه‭ ‬عن‭ ‬20‭ ‬مليون‭ ‬سنتيم‭ ‬على‭ ‬أكثر‭ ‬تقدير‭ ‬حسب‭ ‬ما‭ ‬أخبرتني‭ ‬المرأة‭ ‬بمواصفاته‭ ‬وموقعه،‭ ‬ستأخذ‭ ‬البنت‭ ‬نصفه‭ ‬والزوجة‭ ‬ثمنه‭ ‬وهوما‭ ‬يكون‭ ‬مبلغ‭ ‬اثني‭ ‬عشر‭ ‬مليون‭ ‬ونصف،‭ ‬فيما‭ ‬سيؤول‭ ‬الباقي‭ ‬الى‭ ‬عصبة‭ ‬الزوج‭ ‬أي‭ ‬إخوته،‭ ‬إذن‭ ‬كيف‭ ‬سيمكنهم‭ ‬بهذا‭ ‬المبلغ‭ ‬الهزيل‭ ‬أن‭ ‬يقتنوا‭ ‬شقة‭ ‬أخرى‭ ‬تقترب‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬من‭ ‬مواصفات‭ ‬المنزل‭ ‬الذي‭ ‬انتزع‭ ‬منهم‭ ‬كرها‭. ‬ان‭ ‬مبلغا‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬القبيل‭ ‬كفيل‭ ‬فقط‭ ‬باقتناء‭ ‬غرفة‭ ‬متواضعة‭ ‬مشتركة‭ ‬مع‭ ‬الجيران‭ ‬في‭ ‬أطراف‭ ‬المدينة‭ ‬لا‭ ‬قريبا‭ ‬من‭ ‬وسطها‭ ‬كالبيت‭ ‬الذي‭ ‬كانوا‭ ‬مستقرين‭ ‬فيه‭ ‬منذ‭ ‬عشرين‭ ‬عاما‭.‬

ثم‭ ‬ماذا‭ ‬لوكانت‭ ‬هذه‭ ‬السيدة،‭ ‬تساءلت‭ ‬مع‭ ‬نفسي‭ ‬مرة‭ ‬أخرى،‭ ‬هي‭ ‬أختي‭ ‬توفي‭ ‬زوجها‭ ‬بغتة‭ ‬أو لنفترض‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬زوجتي،‭ ‬أكنت‭ ‬سأكون‭ ‬مرتاحا‭ ‬في‭ ‬قبري‭ ‬وهن‭ ‬يتسكعن‭ ‬في‭ ‬الشوارع‭ ‬بحثا‭ ‬عن‭ ‬مأوى‭ ‬للشراء‭ ‬بهذا‭ ‬المبلغ‭ ‬الواهن‭ ‬الذي‭ ‬حصلن‭ ‬عليه،‭ ‬يتعرضن‭ ‬خلال‭ ‬ذلك‭ ‬لطمع‭ ‬ونصب‭ ‬وكذب‭ ‬المخادعين‭ ‬وباقي‭ ‬الذئاب‭ ‬البشرية‭ ‬المتربصة،‭ ‬كيف‭ ‬ستكون‭ ‬حياتهن‭ ‬الجديدة‭ ‬في‭ ‬غرفة‭ ‬مشتركة‭ ‬أو داخل‭ ‬براكة‭ ‬لا‭ ‬تتوفر‭ ‬على‭ ‬أدنى‭ ‬مقومات‭ ‬العيش‭ ‬الإنساني‭ ‬المحترم‭. ‬صحيح‭ ‬أن‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأسر‭ ‬البسيطة‭ ‬يعيشون‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الشاكلة‭ ‬بل‭ ‬ربما‭ ‬أفظع‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬لكن‭ ‬أن‭ ‬تعيش‭ ‬أسرة‭ ‬في‭ ‬مستوى‭ ‬اقتصادي‭ ‬معين‭ ‬ثم‭ ‬ترد‭ ‬فجأة،‭ ‬بعد‭ ‬سنوات‭ ‬طوال،‭ ‬الى‭ ‬أرذله،‭ ‬فهذا‭ ‬التحول‭ ‬السلبي‭ ‬والتدحرج‭ ‬إلى‭ ‬أسفل‭ ‬لا‭ ‬ترضاه‭ ‬نفسيا‭ ‬جميع‭ ‬الطبقات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬التي‭ ‬تعيش‭ ‬تحت‭ ‬خط‭ ‬الفقر‭.‬‮ ‬

كيف‭ ‬اذن‭ ‬لشريعة‭ ‬استوصى‭ ‬كتابها‭ ‬المقدس‭ ‬وأحاديث‭ ‬رسولها‭ ‬ص‭ ‬المتعددة‭ ‬بنساءها‭ ‬وبناتها‭ ‬خيرا‭ ‬بل‭ ‬وجعلت‭ ‬الجنة‭ ‬تحت‭ ‬أقدامها‭ ‬دون‭ ‬الرجال،‭ ‬أن‭ ‬تعرضها‭ ‬لخطر‭ ‬اجتماعي‭ ‬محتوم،‭ ‬بمجرد‭ ‬أن‭ ‬يموت‭ ‬أزواجها‭ ‬أو آباؤها،‭ ‬كيف‭ ‬يعقل‭ ‬أن‭ ‬توصف‭ ‬العلاقة‭ ‬الزوجية‭ ‬في‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬ب‭‬‮ «‬الميثاق‭ ‬الغليظ‮» ‬‭‬ثم‭ ‬لا‭ ‬تلبث‭ ‬أن‭ ‬تتحول‭ ‬الى‭ ‬مأساة‭ ‬اجتماعية‭ ‬مباشرة‭ ‬بعد‭ ‬انتهاءه‭ ‬بوفاة‭ ‬الطرف‭ ‬الذكر،‭ ‬كيف‭ ‬نسمح‭ ‬بتشتيت‭ ‬أسرة‭ ‬وصفها‭ ‬النص‭ ‬القرآني‭ ‬بكونها‭‬‮ «‬آية‭ ‬من‭ ‬آيات‭ ‬خلقه» ‬لمجرد‭ ‬أن‭ ‬يتوفى‭ ‬ربها‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬الحالة‭ ‬التي‭ ‬بين‭ ‬أيدينا؟‭ ‬أليس‭ ‬من‭ ‬وصايا‭ ‬ديننا‭ ‬الرفق‭‬‮ «‬بالقوارير‭ ‬‮»‬وحسن‭ ‬تربيتهن‭ ‬في‭ ‬الدنيا‭ ‬وهن‭ ‬صغار‭ ‬على‭ ‬أمل‭ ‬الفوز‭ ‬بجنة‭ ‬النعيم‭ ‬في‭ ‬الآخرة،‭ ‬ألم‭ ‬يصف‭ ‬رسولنا‭ ‬الأعظم‭ ‬ص‭ ‬نفسه‭ ‬بأنه‭ ‬خير‭ ‬المؤمنين‭ ‬لأهله،‭ ‬أليس‭ ‬من‭ ‬مبادئ‭ ‬ومقاصد‭ ‬شريعتنا‭ ‬كذلك‭ ‬دفع‭‬‮ «‬الضرر‭ ‬والضرار‭ ‬‮»‬عن‭ ‬سائر‭ ‬المكلفين،‭ ‬و‮«‬رفع‭ ‬الحرج‭ ‬والمشقة‭ ‬‮»‬أثناء‭ ‬أدائهم‭ ‬لشعائرهم‭ ‬التعبدية‭ ‬وامتثالهم‭ ‬لأوامرها‭ ‬وأحكامها‭ ‬العملية؟‭ ‬أليس‭ ‬من‭ ‬مقاصدها‭ ‬كذلك‭‬‮ «‬عدم‭ ‬التكليف‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬يُطاق‮»‬‭‬ ألم‭ ‬يعتبر‭ ‬بعض‭ ‬الفقهاء‭ ‬وعلى‭ ‬رأسهم‭ ‬الامام‭ ‬الشاطبي،‭ ‬المالكي‭ ‬المذهب،‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬مشقة‭ ‬واقعة‭ ‬بالمكلف‭ ‬في‭ ‬التكليف‭ ‬تكون‭ ‬خارجة‭ ‬عن‭ ‬معتاد‭ ‬المشقات‭ ‬في‭ ‬العمال‭ ‬العادية‭ ‬ويحصل‭ ‬بها‭ ‬فساد‭ ‬ديني‭ ‬أودنيوي،‭ ‬فمقصود‭ ‬الشارع‭ ‬فيها‭ ‬الرفع‭ ‬على‭ ‬الجملة‭.‬

ما‭ ‬الحل‭ ‬إذن،‭ ‬كيف‭ ‬السبيل‭ ‬لإنقاذ‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الاسرة‭ ‬الضعيفة‭ ‬من‭ ‬براثن‭ ‬التشرد‭ ‬واحتمال‭ ‬الفساد‭ ‬التي‭ ‬تقف‭ ‬على‭ ‬شفا‭ ‬حفرة‭ ‬منه؟‭ ‬هل‭ ‬شريعتنا‭ ‬المحمدية‭ ‬المباركة‭ ‬قاصرة‭ ‬النظر‭ ‬الى‭ ‬هذه‭ ‬الدرجة‭ ‬أم‭ ‬نحن‭ ‬من‭ ‬هم‭ ‬قاصر والنظر‭ ‬والاجتهاد؟‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬جعل‭ ‬الخليفة‭ ‬عمر‭ ‬ض‭ ‬يتجرأ،‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬مبكّر،‭ ‬على‭ ‬تجاوز‭ ‬هذه ‭‬‮«‬القسمة‭ ‬المقدسة‮»‬‭‬ ويعطي‭ ‬كل‭ ‬ذي‭ ‬حق‭ ‬حقه‭ ‬اعتمادا‭ ‬فقط‭ ‬على‭‬‮ «‬بصيرته‭ ‬العادلة‮»‬‭ ‬التي‭ ‬سمحت‭ ‬له‭ ‬بإيقاف‭ ‬وإلغاء‭ ‬العمل‭ ‬بالكثير‭ ‬من‭ ‬الاحكام‭ ‬والأوامر‭ ‬القرآنية‭ ‬الاخرى‭ ‬الصريحة،‭ ‬فيما‭ ‬نحن‭ ‬الذين‭ ‬نعيش‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الواحد‭ ‬والعشرين،‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬نتباهى‭ ‬فيه‭ ‬أمام‭ ‬العالم‭ ‬بكوننا‭ ‬وقعنا‭ ‬على‭ ‬جميع‭ ‬الاتفاقيات‭ ‬الدولية‭ ‬التي‭ ‬ترفع‭ ‬الحيف‭ ‬عن‭ ‬المرأة،‭ ‬ونتفاخر‭ ‬على‭ ‬سائر‭ ‬الملل‭ ‬الاخرى‭ ‬بأننا‭ ‬الأوائل‭ ‬في‭ ‬تكريمها،‭ ‬لا‭ ‬زلنا‭ ‬الى‭ ‬حدود‭ ‬الساعة،‭ ‬نقدم‭ ‬خطوة‭ ‬ونؤخر‭ ‬أخرى‭ ‬للحسم‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع‭ ‬رغم‭ ‬ما‭ ‬تفرزه‭ ‬بعض‭ ‬قسمة‭ ‬الارث‭ ‬من‭ ‬أوضاع‭ ‬اجتماعية‭ ‬مزرية‭ ‬للمرأة‭ ‬غير‭ ‬خافية‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬ذي‭ ‬نظر‭ ‬وعقل،‭ ‬فالأغلبية‭ ‬للأسف‭ ‬تفضل‭ ‬أن‭ ‬تواجهها‭ ‬بالصمت،‭ ‬أما‭ ‬ذووالمصلحة‭ ‬المادية‭ ‬فيها‭ ‬فيحتجون‭ ‬بأنها‭ ‬قسمة‭ ‬أزلية،‭ ‬غير‭ ‬قابلة‭ ‬لأي‭ ‬اجتهاد‭ ‬بشري،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬قسمتها‭ ‬الرئيسة‭ ‬والتي‭ ‬هي‭‬‮ «‬للذكر‭ ‬مثل‭ ‬حظ‭ ‬الأنثيين‮»‬‭‬ كان‭ ‬العمل‭ ‬جاريا‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬الجاهلية‭ ‬قبل‭ ‬نزول‭ ‬الرسالة‭ ‬المحمدية‭ ‬التي‭ ‬تبنت‭ ‬العمل‭ ‬بها،‭  ‬وهذا‭ ‬أمر‭ ‬سأوضح‭ ‬خلفياته‭ ‬لاحقا‭. ‬إن‭ ‬احتجاج‭ ‬هؤلاء‭ ‬هنا‭ ‬لا‭ ‬يعدوأن‭ ‬يكون ‭‬‮«‬كلمة‭ ‬حق‭ ‬يراد‭ ‬بها‭ ‬باطل‮» ‬‭‬لا‭ ‬أقل‭ ‬ولا‭ ‬أكثر‭.‬

‮ ‬‭ ‬لكن‭ ‬القول‭ ‬بمراجعة‭ ‬أحكام‭ ‬الإرث‭ ‬الواردة‭ ‬في‭ ‬النص‭ ‬القرآني‭ ‬بصيغة‭ ‬آمرة‭ ‬صريحة‭ ‬وبتقسيم‭ ‬واضح‭ ‬مفرز‭ ‬بين‭ ‬الورثة‭ ‬خاصة‭ ‬بين‭ ‬الذكر‭ ‬والأنثى،‭ ‬ليس‭ ‬بالأمر‭ ‬الهين،‭ ‬لا‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬إقناع‭ ‬المجتمع‭ ‬بوجوبه‭ ‬استنادا‭ ‬لتبدل‭ ‬أحوالنا‭ ‬كليا‭ ‬عن‭ ‬أحوال‭ ‬مجتمع‭ ‬عرب‭ ‬الجزيرة‭ ‬التي‭ ‬نزلت‭ ‬فيه،‭ ‬ولا‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬إيجاد‭ ‬سبيل‭ ‬فقهي‭ ‬نخترقه‭ ‬بواسطته‭ ‬لنضفي‭ ‬عليه‭ ‬طابع‭ ‬المشروعية‭ ‬الدينية‭.‬ فنحن‭ ‬أمام‭ ‬نص‭ ‬واضح‭ ‬الصياغة،‭ ‬وأمام‭ ‬قسمة‭ ‬مفرزة‭ ‬يحلول لكثير‭ ‬من‭ ‬الفقهاء‭ ‬أن‭ ‬يطلق‭ ‬عليها‭ ‬وصف ‭‬‮«‬البناء‭ ‬المحكم‮»‬‭‬ الذي‭ ‬إن‭ ‬سقطت‭ ‬لبنة‭ ‬منه،‭ ‬اختل‭ ‬وتهاوى‭ ‬النظام‭ ‬بأكمله،‭ ‬ناسين‭ ‬بأن‭ ‬أحد‭ ‬كبار‭ ‬الصحابة‭ ‬حسبما‭ ‬أشرت‭ ‬إليه‭ ‬أعلاه،‭ ‬والذي‭ ‬كانت‭ ‬تنزل‭ ‬بعض‭ ‬آيات‭ ‬القرآن‭ ‬وفق‭ ‬رأيه،‭ ‬سبق‭ ‬وأن‭ ‬أفتى‭ ‬وحكم‭ ‬في‭ ‬واقعة‭ ‬عرضت‭ ‬عليه،‭ ‬تجاوز‭ ‬فيها‭ ‬بصورة‭ ‬صريحة‭ ‬وجريئة‭ ‬منطوق‭ ‬الآيات‭ ‬المحددة‭ ‬لأنصبة‭ ‬الإرث‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يرى‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬أدنى‭ ‬مساس‭ ‬بالشريعة‭ ‬ولا‭ ‬هدما‭ ‬لهذا‭ ‬البناء‭ ‬ولا‭ ‬تجريحا‭ ‬لهذا‭ ‬الدين‭ ‬الحنيف‭.‬

فهؤلاء‭ ‬الفقهاء‭ ‬يحلولهم‭ ‬أيضا‭ ‬أن‭ ‬يقولوا‭ ‬بأن‭ ‬المرأة‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬ترث‭ ‬نصف‭ ‬حظ‭ ‬الرجل‭ ‬وربعه‭ ‬وثمنه،‭ ‬ترث‭ ‬في‭ ‬أحوال‭ ‬أخرى‭ ‬مثله‭ ‬بل‭ ‬وأكثر‭ ‬منه،‭ ‬فلهؤلاء‭ ‬نقول،‭ ‬هذا‭ ‬مجرد‭ ‬تمويه،‭ ‬فالحالات‭ ‬التي‭ ‬يحبون‭ ‬كثيرا‭ ‬الحديث‭ ‬عنها‭ ‬والاحتجاج‭ ‬بها‭ ‬هي‭ ‬حالات‭ ‬لا‭ ‬تقع‭ ‬الا‭ ‬قليلا‭ ‬أو نادرا‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬العملي‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬أنها،‭ ‬وفي‭ ‬أغلب‭ ‬الأحوال،‭ ‬لا‭ ‬تترتب‭ ‬عنها‭ ‬أية‭ ‬مضرة‭ ‬اجتماعية‭ ‬جلية‭ ‬للأسرة‭ ‬النووية‭ ‬التي‭ ‬وضعها‭ ‬الإسلام‭ ‬نصب‭ ‬أعينه‭ ‬منذ‭ ‬نزوله‭ ‬وأبدى‭ ‬انشغالا‭ ‬عظيما‭ ‬بها‭ ‬على‭ ‬اعتبار‭ ‬أنها‭ ‬المنطلق‭ ‬والقاعدة‭ ‬لأي‭ ‬إصلاح‭ ‬مجتمعي‭ ‬منشود‭. ‬لذلك‭ ‬رأى‭ ‬أنه‭ ‬يتعين‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬دائما‭ ‬محور‭ ‬الحماية‭ ‬ومدار‭ ‬الوقاية‭ ‬باعتبارها‭ ‬الخلية‭ ‬الأولى‭ ‬للمجتمع‭ ‬فما‭ ‬كان‭ ‬منه‭ ‬الا‭ ‬أن‭ ‬يصفها‭ ‬بكونها‭ ‬آية‭ ‬من‭ ‬آيات‭ ‬خلقه‭. ‬أما‭ ‬الحالات‭ ‬التي‭ ‬نحن‭ ‬بصددها‭ ‬والتي‭ ‬تجد‭ ‬فيها‭ ‬المرأة‭ ‬نفسها‭ ‬بمثابة‭ ‬ضحية‭ ‬حقيقية‭ ‬لوفاة‭ ‬زوجها‭ ‬أو أبيها،‭ ‬فيكثر‭ ‬حصولها‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬وهي‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬أضحت‭ ‬تطرح‭ ‬إشكاليات‭ ‬ومآسي‭ ‬اجتماعية‭ ‬معقدة‭ ‬تشكل‭ ‬الحالة‭ ‬الواقعية‭ ‬التي‭ ‬بين‭ ‬أيدينا‭ ‬أحد‭ ‬نماذجها‭ ‬الصارخة‭. ‬ثم‭ ‬انه‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى،‭ ‬يكون‭ ‬التشريع‭  ‬من‭ ‬نصيب‭  ‬الحالات‭ ‬الغالبة‭ ‬التي‭ ‬يروم‭  ‬معالجتها‭ ‬ودرء‭ ‬الضرر‭ ‬والمشقة‭ ‬والحرج‭ ‬عنها،‭ ‬وليس‭ ‬للحالات‭ ‬القليلة‭ ‬الوقوع‭. ‬فالشارع،‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬قول‭ ‬الامام‭ ‬الشاطبي،‭‬‮ «‬اعتبر‭ ‬في‭ ‬مجاري‭ ‬الشرع‭ ‬غلبة‭ ‬المصلحة‭ ‬ولم‭ ‬يعتبر‭ ‬ندور‭ ‬المصلحة‮»‬،‭ ‬والشريعة،‭ ‬يضيف‭ ‬الامام ‭‬‮«‬مبنية‭ ‬على‭ ‬الاحتياط‭ ‬والأخذ‭ ‬بالحزم‭ ‬والتحرز‭ ‬مما‭ ‬عسى‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬طريقا‭ ‬الى‭ ‬مفسدة‮»‬،‭  ‬كما‭ ‬أن‭ ‬عموم‭ ‬العبرة‭ ‬في‭ ‬أحكامها‭ ‬المتعلقة‭ ‬بالأسرة‭   ‬هو الحفاظ‭ ‬على‭ ‬استقرار‭ ‬ومصلحة‭ ‬هذه‭ ‬المؤسسة‭ ‬كنواة‭ ‬أولى‭ ‬للمجتمع‭ ‬وأساس‭ ‬مصيره‭ ‬المستقبلي،‭  ‬فوصفها‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الذكر‭ ‬الحكيم‭ ‬بأنها‭‬‮ «‬آية‭ ‬من‭ ‬آياته‮» ‬‭‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مجرد‭ ‬مبالغة‭ ‬في‭ ‬التعبير‭ ‬أو ترف‭ ‬في‭ ‬القول،‭ ‬بل‭ ‬لأن‭ ‬احدى‭ ‬الغايات‭ ‬الكبرى‭ ‬للرسالة‭ ‬المحمدية‭ ‬كانت‭ ‬تروم‭ ‬من‭ ‬الناحية‭ ‬الاجتماعية‭ ‬تحويل‭ ‬المجتمع‭ ‬العربي‭ ‬من‭ ‬قبلي‭ ‬يكون‭ ‬الولاء‭ ‬فيه‭ ‬للقبيلة‭ ‬أو العشيرة‭ ‬الى‭ ‬أسري‭ ‬يكون‭ ‬الولاء‭ ‬فيه‭ ‬للعقيدة‭ ‬الدينية‭ ‬الأخلاقية،‭ ‬حيث‭ ‬الزوجان‭ ‬والأبناء‭ ‬بصورة‭ ‬خاصة‭ ‬هم‭ ‬مركز‭ ‬الاهتمام‭ ‬ومنطلق‭ ‬أي‭ ‬إصلاح‭ ‬مجتمعي،‭ ‬وليس‭ ‬العصبة‭ ‬من‭ ‬رجال‭ ‬القبيلة‭ ‬وحماتها،‭ ‬فلهذا‭ ‬السبب‭ ‬استأثرت‭ ‬الأحكام‭ ‬المتعلقة‭ ‬بالأسرة‭ ‬بالنصيب‭ ‬الأكبر‭ ‬من‭ ‬آيات‭ ‬الأحكام‭ ‬في‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم،‭ ‬بل‭ ‬حتى‭ ‬الرسول‭ ‬ص‭ ‬وصف‭ ‬هذه‭ ‬المؤسسة‭ ‬ب‭‬‮«‬نصف‭ ‬الدين‮» ‬‭‬من‭ ‬خلال‭ ‬حديثه‭‬‮ «‬اذا‭ ‬تزوج‭ ‬العبد‭ ‬فقد‭ ‬كمل‭ ‬نصف‭ ‬الدين،‭ ‬فليتق‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬الشطر‭ ‬الثاني‮» وكذلك‭ ‬حديث‭‬‮ «‬خذوا‭ ‬نصف‭ ‬دينكم‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الحميراء‮»‬،‭ ‬ويقصد‭ ‬بالحميراء‭ ‬زوجته‭ ‬عائشة‭. ‬لذلك‭ ‬جاءت‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأحكام‭ ‬المتعلقة‭ ‬بها‭ ‬والمنظمة‭ ‬لعلاقة‭ ‬الزوجين‭ ‬ببعضهما‭ ‬أو بينهما‭ ‬وبين‭ ‬الأبناء،‭ ‬سواء‭ ‬أثناء‭ ‬قيام‭ ‬العلاقة‭ ‬الزوجية‭ ‬أو انتهاءها‭ ‬بالوفاة‭ ‬او الطلاق،‭ ‬تصب‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الاتجاه،‭ ‬تستهدف‭ ‬مصلحة‭ ‬الأسرة‭ ‬النووية‭ ‬بشكل‭ ‬خاص‭ ‬وتروم‭ ‬تقوية‭ ‬مركزها‭ ‬في‭ ‬النسق‭ ‬الاجتماعي‭ ‬العام‭. ‬

ان‭ ‬عملية‭ ‬مسح‭ ‬بسيطة‭ ‬للأعراف‭ ‬الاجتماعية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬سائدة‭ ‬قلب‭ ‬نزول‭ ‬الرسالة‭ ‬وفي‭ ‬إبانها‭ ‬والتي‭ ‬كانت‭ ‬تنظم‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الرجل‭ ‬والمراة،‭ ‬ومقارنتها‭ ‬بالأحكام‭ ‬الأسرية‭ ‬الجديدة‭ ‬التي‭ ‬جاء‭ ‬الاسلام‭ ‬بها‭ ‬أو اقتصر‭ ‬على‭ ‬تبنيها،‭ ‬توضح‭ ‬بشكل‭ ‬مثير‭ ‬للانتباه‭ ‬كيف‭ ‬أبدت‭ ‬الشريعة‭ ‬الاسلامية‭ ‬منذ‭ ‬البداية‭ ‬عظيم‭ ‬الانشغال‭ ‬بهذه‭ ‬المؤسسة‭ ‬وكأنها‭ ‬تعقد‭ ‬كل‭ ‬آمالها‭ ‬وبرامجها‭ ‬الاصلاحية‭  ‬المستقبلية‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬النواة‭ ‬الصغيرة‭ ‬وذلك‭ ‬باعادة‭ ‬صياغة‭ ‬العلاقات‭ ‬السلوكية‭ ‬والتربوية‭ ‬التي‭ ‬تنظمها‭ ‬من‭ ‬الداخل‭ ‬بشكل‭ ‬يكاد‭ ‬يكون‭ ‬جذريا،‭  ‬على‭ ‬أمل‭ ‬أن‭ ‬تلعب‭ ‬مستقبلا‭ ‬الدور‭ ‬الحضاري‭ ‬المنوط‭ ‬بها‭. ‬هكذا‭ ‬وهي‭ ‬تمهد‭ ‬الطريق‭ ‬لذلك،‭ ‬ابتدأت‭  ‬بجعل‭ ‬المرأة،‭ ‬كإحدى‭ ‬أعمدتها‭ ‬الرئيسية،‭ ‬طرفا‭ ‬أصليا‭ ‬في‭ ‬عقد‭ ‬الزواج‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كانت‭ ‬مجرد‭ ‬موضوع‭ ‬له‭ ‬بأن‭ ‬اشترط‭ ‬موافقتها‭ ‬الصريحة‭ ‬أوالضمنية،‭ ‬كما‭ ‬جعلت‭ ‬المهر‭ ‬حقا‭ ‬خالصا‭ ‬لها‭  ‬بعدما‭ ‬كان‭ ‬حقا‭ ‬لأهلها‭ ‬من‭ ‬الذكور‭. ‬لنلاحظ‭ ‬كذلك‭ ‬كيف‭ ‬حصرت‭ ‬عدد‭ ‬الطلقات‭ ‬في‭ ‬ثلاثة‭ ‬بعدما‭ ‬كانت‭ ‬بلا‭ ‬نهاية‭ ‬في‭ ‬الجاهلية‭. ‬وكيف‭ ‬وضعت‭ ‬لها‭ ‬حقوقا‭ ‬أثناء‭ ‬عدتها‭ ‬التي‭ ‬حددتها‭ ‬في‭ ‬مدة‭ ‬معينة،‭ ‬وحقوقا‭ ‬لأطفالها‭ ‬إن‭ ‬وجدوا‭ ‬سواء‭ ‬أثناءها‭ ‬أو بعد‭ ‬انقضائها‭ ‬وهي‭ ‬حقوق‭ ‬كانت‭ ‬منعدمة‭ ‬من‭ ‬قبل‭ .‬لنلاحظ‭ ‬كذلك‭ ‬كيف‭ ‬حفظ‭ ‬الإسلام‭ ‬للجنين‭ ‬حقوقه‭ ‬في‭ ‬الإرث‭ ‬وهو لا‭ ‬زال‭ ‬في‭ ‬بطن‭ ‬أمه‭  ‬وكيف‭ ‬حفظه‭ ‬كذلك‭ ‬للطفل‭ ‬الصغير‭ ‬وحمى‭ ‬مال‭ ‬اليتيم‭. ‬لندقق‭ ‬النظر‭ ‬قليلا‭ ‬حول‭ ‬الأهمية‭ ‬المطلقة‭ ‬التي‭ ‬أولتها‭ ‬الشريعة‭ ‬لتعليم‭ ‬الأطفال‭ ‬دون‭ ‬أي‭ ‬تمييز‭ ‬بين‭ ‬الجنسين،‭  ‬من‭ ‬خلال‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬النصوص‭ ‬الدينية‭ ‬التي‭ ‬فرضت‭ ‬ذلك‭ ‬بل‭ ‬كادت‭ ‬أن‭ ‬تجعل‭ ‬اهمال‭ ‬تعليمهم‭ ‬وتدريسهم‭ ‬جريمة‭ ‬يعاقب‭ ‬عليها‭ ‬حسبما‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬الحديث‭ .‬والالتزام‭ ‬بالتعليم‭ ‬الذي‭ ‬حفزت‭ ‬عليه‭ ‬الرسالة‭ ‬المحمدية‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬آية‭ ‬قرآنية‭ ‬وحديث‭ ‬نبوي،‭ ‬هو واحد‭ ‬من‭ ‬عظيم‭ ‬إسهامات‭ ‬الاسلام‭ ‬في‭ ‬الشؤون‭ ‬المتعلقة‭ ‬بمرحلة‭ ‬الطفولة‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬دفع‭ ‬احد‭ ‬الباحثين‭ ‬الغربيين‭ ‬الى‭ ‬الاعتراف‭ ‬بأسبقية‭ ‬الاسلام‭ ‬التاريخية‭ ‬في‭ ‬اقرار‭ ‬مفهوم‭ ‬الحقوق‭ ‬بشكل‭ ‬عام‭ ‬والذي‭ ‬رغم‭ ‬انه ‭‬‮«‬مفهوم‭ ‬حديث‭ ‬من‭ ‬بعض‭ ‬جوانبه،‭ ‬بيد‭ ‬أنه‭ ‬طبق‭ ‬سلفا‭ ‬في‭ ‬النصوص‭ ‬الحريصة‭ ‬على‭ ‬الأطفال‭ ‬وفق‭ ‬الأحكام‭ ‬الشرعية‭ ‬الاسلامية‮»‬‭‬ الطفولة ‭ ‬90.   ‬

‭ ‬لنلاحظ‭ ‬أيضا‭ ‬تشديد‭ ‬الإسلام‭ ‬على‭ ‬البر‭ ‬بالوالدين‭ ‬والتركيز‭ ‬بصورة‭ ‬خاصة‭ ‬على‭ ‬الأم،‭ ‬مع‭ ‬اعتبار‭ ‬العكس‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬الكبائر‭ ‬تضاهي‭ ‬الشرك‭ ‬بالله‭. ‬

إن‭ ‬استفراد‭ ‬الأسرة‭ ‬النووية‭ ‬بجزء‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬آيات‭ ‬الأحكام‭ ‬في‭ ‬القرآن‭ ‬يدل‭ ‬دلالة‭ ‬قاطعة‭ ‬على‭ ‬تموضعها‭ ‬وتمركزها‭ ‬كاحدى‭ ‬أهم‭ ‬المؤسسات‭ ‬التي‭ ‬ينبغي‭ ‬إحاطتها‭ ‬دائما‭ ‬باكبر‭ ‬قدر‭ ‬من‭ ‬الاهتمام،‭ ‬لقد‭ ‬بدا‭ ‬الإسلام‭ ‬هنا‭ ‬وكانه‭ ‬يريد‭ ‬اعطاء‭ ‬الانطلاقة‭ ‬لميلاد‭ ‬مجتمع‭ ‬جديد‭ ‬تكون‭ ‬فيه‭ ‬الأجيال‭ ‬التي‭ ‬ستولد‭ ‬مستقبلا‭ ‬مختلفة‭ ‬بشكل‭ ‬جد‭ ‬إيجابي‭ ‬عن‭ ‬سابقاتها،‭ ‬أجيال‭ ‬يتعين‭ ‬بالضرورة‭ ‬أن‭ ‬تولد‭ ‬في‭ ‬وسط‭ ‬تكون‭ ‬فيه‭ ‬أخلاق‭ ‬التقوى‭ ‬الدينية‭ ‬معيار‭ ‬السلوك‭ ‬الاجتماعي‭ ‬الأمثل،‭ ‬ويكون‭ ‬فيه‭ ‬الأبوان‭ ‬داخل‭ ‬أسرتهم‭ ‬الصغيرة،‭ ‬المستقرة‭ ‬والآمنة،‭ ‬بمثابة‭ ‬القدوة‭ ‬الأخلاقية‭ ‬التطبيقية‭ ‬للأطفال‭ ‬الذين‭ ‬سينجبونهم،‭ ‬أما‭ ‬التعليم‭ ‬أو واجب‭ ‬القراءة‭ ‬والتحصيل‭ ‬العلمي،‭ ‬الذي‭ ‬دشنت‭ ‬به‭ ‬الشريعة‭ ‬أحكامها‭ ‬وأوامرها‭ ‬الدينية‭ ‬العملية،‭  ‬فقد‭ ‬أنيطت‭ ‬به‭ ‬مسؤولية‭ ‬استكمال‭ ‬ما‭ ‬بدأه‭ ‬الأبوان‭ ‬لكن‭ ‬على‭ ‬المدى‭ ‬الطويل‭ ‬باعتبار‭ ‬ان‭ ‬طلبه‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬من‭ ‬المهد‭ ‬الى‭ ‬اللحد‭.‬

ثم‭ ‬انه‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬التقسيم‭ ‬المفرز‭ ‬الذي‭ ‬وضعه‭ ‬القرآن،‭ ‬ظلت‭ ‬هناك‭ ‬أوضاع‭ ‬واقعية‭ ‬لم‭ ‬يتطرق‭ ‬اليها‭ ‬بالحل،‭ ‬لذلك‭ ‬اضطر‭ ‬معها‭ ‬الصحابة‭ ‬الى‭ ‬التدخل‭ ‬وايجاد‭ ‬تسويات‭ ‬ترضي‭ ‬الأطراف‭ ‬العائلية‭ ‬سواء‭ ‬كانوا‭ ‬عصبة‭ ‬أومن‭ ‬ذوي‭ ‬الفروض،‭ ‬نذكر‭ ‬هنا‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬‮«‬المسألة‭ ‬المنبرية‭..‬ والمسألة‭ ‬الحمارية‭….. ‬؟؟؟؟‭ ‬

 

‮ ‬‭ ‬غير‭ ‬أنه‭ ‬قبل‭ ‬الدخول‭ ‬جديا‭ ‬في‭ ‬الموضوع،‭ ‬أود‭ ‬أن‭ ‬أشير‭ ‬الى‭ ‬استنادي‭ ‬عموما‭ ‬على‭ ‬نظرية‭ ‬الإمام‭ ‬الشاطبي‭ ‬المقاصدية‭ ‬التي‭ ‬ضمنها‭ ‬كتابه‭ ‬القيم‭‬‮ «‬الموافقات‭ ‬في‭ ‬أصول‭ ‬الشريعة‮»‬،‭ ‬والتي‭ ‬ملخصها‭ ‬العام‭ ‬أن‭ ‬الشريعة‭ ‬مبنية‭ ‬على‭ ‬مراعاة‭ ‬المصالح‭ ‬ودرء‭ ‬المفاسد،‭ ‬فعلم‭ ‬مقاصد‭ ‬الشريعة‭ ‬بحسب‭ ‬ما‭ ‬فصل‭ ‬القول‭ ‬فيه‭ ‬إمام‭ ‬الأندلس،‭ ‬خاصة‭ ‬تمييزه‭ ‬الدقيق‭ ‬بين‭ ‬كليات‭ ‬الشريعة‭ ‬وجزئياتها‭ ‬التفصيلية،‭ ‬وهو تمييز‭ ‬لم‭ ‬يسبق‭ ‬اليه‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الفكر‭ ‬التشريعي‭ ‬البشري،‭ ‬يعد‭ ‬في‭ ‬اعتقادي‭ ‬المدخل‭ ‬الوحيد‭ ‬الذي‭ ‬يسمح‭ ‬اليوم‭ ‬بإمكانية‭ ‬إدخال‭ ‬التعديلات‭ ‬على‭ ‬نظام‭ ‬الارث‭ ‬في‭ ‬الاسلام‭ ‬حتى‭ ‬يمكن،‭ ‬على‭ ‬الأقل،‭ ‬درء‭ ‬المشقة‭ ‬ورفع‭ ‬الحرج‭ ‬عن‭ ‬أمثال‭ ‬هذه‭ ‬السيدة‭ ‬وما‭ ‬أكثرهن،‭ ‬والتي‭ ‬يبدو أن‭ ‬وضعيتها‭ ‬الاجتماعية‭ ‬الجديدة‭ ‬بعد‭ ‬قسمة‭ ‬إرث‭ ‬زوجها‭ ‬الهالك،‭ ‬ستدخلها‭ ‬حتما‭ ‬الى‭ ‬دائرة‭‬‮ «‬التكليف‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬يُطاق‮» ‬‭‬وتضعها‭ ‬في‭ ‬ضرر‭ ‬جلي‭ ‬وفساد‭ ‬محتمل‭ ‬السقوط‭ ‬فيه‭ ‬وهوما‭ ‬تنهى‭ ‬عنه‭ ‬شريعتنا‭ ‬العقلانية‭ ‬السمحة‭ ‬نهيا‭ ‬مطلقا‭. ‬هذا‭ ‬دون‭ ‬ان‭ ‬ننسى‭ ‬الاستشهاد‭ ‬أحيانا‭ ‬بأقوال‭ ‬ومواقف‭ ‬أئمة‭ ‬فقه‭ ‬آخرين‭ ‬كانوا‭ ‬بمثابة‭ ‬تمهيد‭ ‬فكري‭ ‬للقول‭ ‬بمقاصد‭ ‬الشريعة‭ ‬الاسلامية‭ ‬ونقصد‭ ‬بالذكر‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬ابن‭ ‬رشد‭ ‬والقرافي‭ ‬والجويني‭ ‬والغزالي‭ ‬وابن‭ ‬القيم‭ ‬ونجم‭ ‬الدين‭ ‬الطوفي،‭ ‬فهؤلاء‭ ‬الأئمة‭ ‬رضوان‭ ‬الله‭ ‬عليهم‭ ‬مهدوا‭ ‬قبل‭ ‬مئات‭ ‬من‭ ‬السنين‭ ‬الطريق‭ ‬الملكي‭ ‬لانبثاق‭ ‬مفهوم‭ ‬علم‭ ‬المقاصد‭ ‬الذي‭ ‬اكتمل‭ ‬بناؤه‭ ‬وصرحه‭ ‬مع‭ ‬الإمام‭ ‬الشاطبي‭ ‬والذي‭ ‬لم‭ ‬يعر‭ ‬نظريته‭ ‬الجديدة‭ ‬في‭ ‬التشريع‭ ‬والاجتهاد‭ ‬الفقهي‭ ‬زملاءه‭ ‬من‭ ‬فقهاء‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬الهجري‭ ‬ولا‭ ‬الذين‭ ‬جاؤوا‭ ‬بعده،‭ ‬فقد‭ ‬استمرت‭ ‬نظريته‭ ‬غير‭ ‬ذات‭ ‬ذكر‭ ‬في‭ ‬الأوساط‭ ‬الفقهية‭ ‬حتى‭ ‬ظهر‭ ‬الإمام‭ ‬محمد‭ ‬عبده‭ ‬الذي‭ ‬نبه‭ ‬لأهميتها‭ ‬المنهجية‭ ‬في‭ ‬الاجتهاد‭ ‬والتشريع‭ ‬واستنباط‭ ‬الأحكام‭ ‬الشرعية‭. ‬

إن‭ ‬التمييز‭ ‬المتحدث‭ ‬عنه‭ ‬بين‭ ‬كليات‭ ‬الشريعة‭ ‬وجزئياتها‭ ‬ومراعاة‭ ‬أسباب‭ ‬نزول‭ ‬آيات‭ ‬الإرث‭ ‬سيسمح‭ ‬لنا،‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى،‭ ‬بفتح‭ ‬نقاش‭ ‬جدي‭ ‬آخر‭ ‬يتعلق‭ ‬بإقرار‭ ‬مساواة‭ ‬بين‭ ‬الرجال‭ ‬والنساء‭ ‬في‭ ‬اقتسامه،‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬المرأة،‭ ‬ذلك‭ ‬الطرف‭ ‬الغير‭ ‬المنتج‭ ‬ماديا‭ ‬والقابع‭ ‬في‭ ‬بيته‭ ‬منذ‭ ‬قرون‭ ‬مضت،‭ ‬مثل‭ ‬اليوم‭.‬أصبحت‭ ‬هي‭ ‬كذلك ‭‬‮«‬قوامة‮» ‬‭‬على‭ ‬أبناءها‭ ‬وعلى‭ ‬زوجها،‭ ‬وأحيانا‭ ‬حتى‭ ‬على‭ ‬والديها‭ ‬وإخوتها‭ ‬الذكور‭ .‬لنعترف‭ ‬أن‭ ‬الجميع‭ ‬أصبح‭ ‬اليوم‭ ‬يسهر‭ ‬على‭ ‬تربيتها‭ ‬وتعليمها‭ ‬وهي‭ ‬لازالت‭ ‬تحت‭ ‬كنفه‭ ‬كطفلة‭ ‬صغيرة،‭ ‬لأجل‭ ‬أن‭ ‬تصير‭ ‬كذلك،‭ ‬مستقلة‭ ‬في‭ ‬ذمتها‭ ‬المالية‭ ‬عن‭ ‬زوجها‭ ‬المنتظر‭ ‬ومساعدة‭ ‬له‭ ‬على‭ ‬مصاريف‭ ‬الأبناء‭ ‬وعلى‭ ‬تكاليف‭ ‬الحياة‭ ‬عموما‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تتوقف‭ ‬عن‭ ‬الارتفاع‭. ‬‮ ‬

غير‭ ‬أن‭ ‬الأمر‭ ‬يقتضي‭ ‬في‭ ‬البداية‭ ‬عرض‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الحقائق‭ ‬التاريخية‭ ‬من‭ ‬شأنها‭ ‬أن‭ ‬تساعد‭ ‬على‭ ‬فهم‭ ‬واقع‭ ‬العرب‭ ‬وحياتهم‭ ‬الاجتماعية‭ ‬إبان‭ ‬نزول‭ ‬الرسالة‭ ‬والذي‭ ‬يختلف‭ ‬كليا‭ ‬عنا،‭ ‬اذ‭ ‬يستحيل،‭ ‬ونحن‭ ‬نحاول‭ ‬أن‭ ‬نقوم‭ ‬بذلك،‭ ‬أن‭ ‬نضع‭ ‬الايات‭ ‬المحددة‭ ‬لأنصبة‭ ‬الارث‭ ‬تحت‭ ‬المجهر‭ ‬الفقهي‭ ‬والقانوني‭ ‬والاجتماعي‭ ‬المعاصر،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬نطلع‭ ‬عن‭ ‬كثب‭ ‬على‭ ‬الأحوال‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والثقافية‭ ‬لمجتمع‭ ‬الجزيرة‭ ‬الصحراوية‭ ‬التي‭ ‬نزلت‭ ‬فيه‭ ‬والقائم‭ ‬عموما‭ ‬على‭ ‬القوة‭ ‬الجسدية‭ ‬والمعنوية‭ ‬للرجل‭ ‬آنذاك‭ ‬على‭ ‬اعتبار‭ ‬أنه‭‬‮ «‬بحكم‭ ‬تفوق‭ ‬بنيته‭ ‬على‭ ‬بنية‭ ‬المرأة،‭ ‬وبفضل‭ ‬قوة‭ ‬عضلاته‭ ‬ومقاومته‭ ‬للطبيعة‭ ‬وللأخطار،‭ ‬عد‭ ‬سيد‭ ‬الأسرة‭ ‬ورب‭ ‬العائلة‭ ‬وبعل‭ ‬المرأة‭ ‬أي‭ ‬سيدها،‭ ‬منح‭ ‬نفسه‭ ‬حقوقا‭ ‬لم‭ ‬يعطيها‭ ‬للنساء،‭ ‬وبنى‭ ‬مفاهيم‭ ‬العدل‭ ‬والحق‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬أن‭ ‬العدل‭ ‬هو القوة،‭ ‬فاغتصب‭ ‬حق‭ ‬المرأة‭ ‬والبنت‭ ‬والولد‭ ‬والرجل‭ ‬العاجز،‭ ‬لقوته‭ ‬ولأنه‭ ‬مقاتل،‭ ‬أما‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬المذكورين‭ ‬فعاجز‭ ‬عن‭ ‬القتال،‭ ‬فحرمهم‭ ‬من‭ ‬الحقوق،‭ ‬ومنها‭ ‬حقوق‭ ‬الارث‮»‬‭….‬المفصل‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬العرب‭ ‬قبل‭ ‬الاسلام،‭ ‬جواد‭ ‬علي‭….‬الجزء‭ ‬الرابع

فالقرآن‭ ‬كما‭ ‬ذكر‭ ‬الإمام‭ ‬الشاطبي‭ ‬الأندلسي‭ ‬النسب،‭ ‬والمالكي‭ ‬المذهب،‭‬‮ «‬نزل‭ ‬على‭ ‬معهود‭ ‬العرب‮»‬‭‬ من‭ ‬عادات‭ ‬وتقاليد‭ ‬وأعراف‭ ‬وأخلاق‭ ‬جارية‭ ‬بينهم،‭ ‬ومعرفة‭ ‬أسباب‭ ‬نزول‭ ‬الاحكام‭ ‬ضروري‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬لأن‭‬‮ «‬الجهل‭ ‬به‭ ‬موقع‭ ‬في‭ ‬التيه‭ ‬والاشكالات‮»‬‭‬ و ‮«‬من‭ ‬تتبع‭ ‬مجاري‭ ‬الحكايات‭ ‬في‭ ‬القرآن‭ ‬عرف‭ ‬مداخلها‭ ‬وما‭ ‬هو منها‭ ‬حق‭ ‬مما‭ ‬هو باطل‮» ‬‭‬لذلك‭ ‬وجب‭ ‬بالضرورة‭ ‬فهم‭ ‬خطابه‭ ‬وأحكامه‭ ‬العملية‭ ‬ومقاصده‭ ‬العامة‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الجهة‭ :‬

1‭‬ – تقسيم‭ ‬أنصبة‭ ‬الارث‭ ‬للذكر‭ ‬مثل‭ ‬حظ‭ ‬الأنثيين‭ ‬مثلما‭ ‬ورد‭ ‬بالنص‭ ‬القرآني‭ ‬كان‭ ‬معمولا‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬الجاهلية‭ ‬قبل‭ ‬نزول‭ ‬الوحي‭:‬

هناك‭ ‬رواية‭ ‬تذكر‭ ‬أن‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬جعل‭ ‬للبنات‭ ‬نصيباً‭ ‬في‭ ‬الإرث‭ ‬من‭ ‬الجاهليين‭ ‬هو ‮«‬ذو المجاسد‮»‬‭‬ عامر‭ ‬بن‭ ‬جشم‭ ‬بن‭ ‬غنم‭ ‬بن‭ ‬حبيب‭ ‬بن‭ ‬كعب‭ ‬بن‭ ‬يشكر،‭ ‬ورّث‭ ‬ماله‭ ‬لولده‭ ‬في‭ ‬الجاهلية،‭ ‬فجعل‭ ‬للذكر‭ ‬مثل‭ ‬حظ‭ ‬الأنثيين‭ ‬فوافق‭ ‬حكمه‭ ‬حكم‭ ‬الإسلام‭.‬‮ ‬

‭)‬لسان‭ ‬العرب،‭ ‬المجلد‭ ‬الرابع،‭ ‬ص‭ ‬275‭ ‬/ نقلاً‭ ‬عن‭ ‬تاريخ‭ ‬العرب،‭ ‬المجلد‭ ‬الخامس،‭ ‬ص‭‬273‬)

وقد‭ ‬أورد‭ ‬الامام‭ ‬الشاطبي‭ ‬هذه‭ ‬الحقيقة‭ ‬التاريخية‭ ‬مرتين‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬الموافقات‭ ‬في‭ ‬أصول‭ ‬الشريعة‭ ‬حيث‭ ‬أورد‭ ‬ما‭ ‬يلي‭‬‮ : «‬ألا‭ ‬ترى‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬للعرب‭ ‬أحكام‭ ‬عندهم‭ ‬في‭ ‬الجاهلية‭ ‬أقرها‭ ‬الاسلام‭ ‬كما‭ ‬قالوا‭ ‬في‭ ‬القراض،‭ ‬وتقدير‭ ‬الدية،‭ ‬وضربها‭ ‬على‭ ‬العاقلة،‭ ‬وإلحاق‭ ‬الولد‭ ‬بالقافة،‭ ‬والوقوف‭ ‬بالمشعر‭ ‬الحرام،‭ ‬والحكم‭ ‬في‭ ‬الخنثى،‭ ‬وتوريث‭ ‬الولد‭ ‬للذكر‭ ‬مثل‭ ‬حظ‭ ‬الأنثيين،‭ ‬والقسامة‭ ‬وغير‭ ‬ذلك‭ ‬مما‭ ‬ذكره‭ ‬العلماء‮».‬‭‬

هذه‭ ‬الحقيقة‭ ‬التاريخية‭ ‬التي‭ ‬أكدها‭ ‬الامام‭ ‬الشاطبي‭ ‬جاءت‭ ‬وهو بصدد‭ ‬حديثه‭ ‬عن‭ ‬مكارم‭ ‬الأخلاق‭ ‬ومحاسن‭ ‬الشيم‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬لعقلاء‭ ‬العرب‭ ‬(قبل‭ ‬نزول‭ ‬الاسلام‭ (‬اعتناء‭ ‬بها‭ ‬والتي‭‬‮ «‬صححت‭ ‬الشريعة‭ ‬منها‭ ‬ما‭ ‬هوصحيح‭ ‬وزادت‭ ‬عليه،‭ ‬وأبطلت‭ ‬ما‭ ‬هو باطل،‭ ‬وبينت‭ ‬ما‭ ‬ينفع‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬ومضار‭ ‬ما‭ ‬يضر‭ ‬منه‮»‬،‭ ‬فمكارم‭ ‬الأخلاق‭ ‬والنهي‭ ‬عن‭ ‬مساوئها‭ ‬كانت‭ ‬‮ «‬أول‭ ‬ما‭ ‬خوطبوا‭ ‬به‭) ‬أي‭ ‬العرب‭ (‬وأكثر‭ ‬ما‭ ‬تجد‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬السور‭ ‬المكية‮»‬‭‬ وقد‭ ‬وردت‭ ‬هذه‭ ‬المكارم‭ ‬في‭‬‮ «‬صيغة‭ ‬عامة‭ ‬وعبارات‭ ‬مطلقة‮» ‬‭‬كالأمر‭ ‬بالعدل‭ ‬والإحسان‭ ‬والوفاء‭ ‬بالعهد‭ ‬والأخذ‭ ‬بالعفو والنهي‭ ‬عن‭ ‬الفحشاء‭ ‬والمنكر‭ ‬والبغي‭ ‬والوأد‭ ‬والفساد‭ ‬في‭ ‬الأرض‭…‬

فتطبيقات‭ ‬مكارم‭ ‬الأخلاق‭ ‬هاته،‭ ‬يضيف‭ ‬الإمام‭ ‬الشاطبي‭ ‬والتي‭ ‬كانت‭ ‬معهودة‭ ‬عندهم‭ ‬على‭ ‬الجملة‭ ‬بل‭ ‬و‮«‬يُتٓمدّح‭ ‬بها‮» ‬‭‬في‭ ‬زمانهم‭ ‬والتي‭‬‮ «‬كانت‭ ‬فيهم‭ ‬من‭ ‬بقايا‭ ‬ملة‭ ‬أبيهم‭ ‬إبراهيم‮»‬‭‬ هي‭ ‬التي‭ ‬أقرها‭ ‬الاسلام‭ ‬عليهم ‭‬‮«‬كما‭ ‬قالوا‭ ‬في‭ ‬القراض‭ ‬وتقدير‭ ‬الدية‭ ‬وضربها‭ ‬على‭ ‬العاقلة،‭ ‬وإلحاق‭ ‬الولد‭ ‬بالقافة‭ ‬والوقوف‭ ‬بالمشعر‭ ‬الحرام‭ ‬والحكم‭ ‬في‭ ‬الخنثى‭ ‬وتوريث‭ ‬الولد‭ ‬للذكر‭ ‬مثل‭ ‬حظ‭ ‬الأنثيين‭ ‬والقسامة‭ ‬وغير‭ ‬ذلك‭ ‬مما‭ ‬ذكره‭ ‬العلماء‮»‬‭‬. فهذه‭ ‬الأحكام‭ ‬بالإضافة‭ ‬الى‭ ‬أحكام‭ ‬أخرى‭ ‬ذكرها‭ ‬مثل‭ ‬قطع‭ ‬السارق‭ ‬وصلب‭ ‬قاطع‭ ‬الطريق‭ ‬والاغتسال‭ ‬من‭ ‬الجنابة‭ ‬وغسل‭ ‬الموتى‭ ‬وتكفينهم‭ ‬والكثير‭ ‬من‭ ‬شعائر‭ ‬الحج‭ ‬وهي‭ ‬مما‭ ‬كانت‭ ‬فيهم‭ ‬من‭ ‬بقايا‭ ‬ملة‭ ‬إبراهيم،‭ ‬بقوا‭ ‬على‭ ‬حكمها‭ ‬بعد‭ ‬الاسلام،‭ ‬إذ‭ ‬كانت‭ ‬تعد‭ ‬عندهم‭ ‬بمثابة‭ ‬استمرار‭ ‬لشعائر‭ ‬الملة‭ ‬الإبراهيمية‭ ‬وتطبيقات‭ ‬عملية‭ ‬لمكارم‭ ‬الأخلاق‭ ‬والنهي‭ ‬عن‭ ‬مساوئها،‭ ‬فالشريعة،‭ ‬كما‭ ‬يؤكد‭ ‬الإمام‭ ‬الشاطبي،‭‬‮ «‬كلها‭ ‬إنما‭ ‬هي‭ ‬تَخَلَّق‭ ‬بمكارم‭ ‬الأخلاق‮»‬‭‬.

إن‭ ‬مواكبة‭ ‬الإسلام‭ ‬وتبنيه‭ ‬لبعض‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬معهودا‭ ‬عند‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬الجاهلية‭ ‬من‭ ‬مكارم‭ ‬خلقية‭ ‬وأحكام‭ ‬وأعراف‭ ‬عملية‭ ‬كانت‭ ‬سارية‭ ‬المفعول،‭ ‬واقع‭ ‬فرضته‭ ‬ضرورة‭ ‬محافظة‭ ‬الشريعة‭ ‬الجديدة‭ ‬على‭ ‬المستويات‭ ‬الأخلاقية‭ ‬للمجتمع‭ ‬الجاهلي‭ ‬الذي‭ ‬ستطبق‭ ‬فيه‭ ‬والا‭ ‬لكانت‭ ‬ووجهت‭ ‬بالرفض‭ ‬والرد‭ ‬آنذاك‭ ‬كما‭ ‬أكد‭ ‬الامام‭ ‬الشاطبي،‭  ‬فمسألة‭ ‬ضرورة‭ ‬التوافق‭ ‬النسبي‭ ‬للقوانين‭ ‬المراد‭ ‬تطبيقها‭ ‬مع‭ ‬الأخلاق‭ ‬والأعراف‭ ‬المجتمعية‭ ‬السائدة،‭ ‬تعد‭ ‬من‭ ‬المسلمات‭ ‬البديهية‭ ‬في‭ ‬علوم‭ ‬القانون‭ ‬اليوم،‭ ‬لذلك‭ ‬فهو أمر لم‭ ‬تستفرد‭ ‬به‭ ‬شريعتنا‭ ‬الاسلامية‭ ‬وحدها‭ ‬يضيف‭ ‬الشاطبي،‭ ‬بل‭ ‬تضطر‭ ‬اليه‭ ‬جميع‭ ‬الأنظمة‭ ‬القانونية‭ ‬وتفترضه‭ ‬مسبقا‭ ‬قبل‭ ‬أي‭ ‬محاولة‭ ‬تطبيق‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬الواقع،‭ ‬فكما‭ ‬اوضح‭ ‬أحد‭ ‬الباحثين‭ ‬المعاصرين،‭  ‬يعد‭ ‬القانون‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يحافظ‭ ‬على‭ ‬المستويات‭ ‬الأخلاقية‭ ‬للمجتمع‭ ‬الذي‭ ‬سيطبق‭ ‬فيه،‭ ‬فاشلا‭ ‬في‭ ‬أغلب‭ ‬الأحوال‭ ‬في‭ ‬إرساء‭ ‬سلطته‭ ‬على‭ ‬اعتبار‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يحاول‭ ‬ضمان‭ ‬حد‭ ‬أدنى‭ ‬ومقبول‭ ‬من‭ ‬الطاعة‭ ‬الأخلاقية‭ ‬التلقائية‭ ‬له‭. ‬فلأن‭ ‬القانون‭ ‬يعكس‭ ‬بطبعه‭ ‬الأخلاق‭ ‬العامة‭ ‬السائدة‭ ‬أوالتي‭ ‬تطمح‭ ‬الطبقة‭ ‬المستنيرة‭ ‬فيه‭ ‬الى‭ ‬إرسائها‭ ‬كسلوك‭ ‬تراه‭ ‬ضروريا‭ ‬للدفع‭ ‬بالمجتمع‭ ‬الى‭ ‬مزيد‭ ‬من‭ ‬التنظيم‭ ‬والانضباط،‭  ‬يفترض‭ ‬به‭ ‬مبدئيا‭ ‬أن‭ ‬يتوافق‭ ‬ويعكس‭ ‬معايير‭ ‬السلوك‭ ‬السائدة‭ ‬والقيم‭ ‬المتطلبة‭ ‬والا‭ ‬اضطر‭ ‬أن‭ ‬يلجأ‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬لفرض‭ ‬نصوصه‭ ‬الى‭ ‬عنصر‭ ‬الجزاء‭ ‬والقسر‭ ‬وهوما‭ ‬يجعل‭ ‬عملية‭ ‬تطبيقه‭ ‬مكلفة‭ ‬ومتعبة‭ ‬بل‭ ‬وأحيانا‭ ‬ضربا‭ ‬من‭ ‬العبث‭. ‬(فكرة‭ ‬القانون،‭ ‬دينيس‭ ‬لويد)‭.‬

وعليه‭ ‬فحكم‭ ‬توريث‭ ‬الذكر‭ ‬مثل‭ ‬حظ‭ ‬الأنثيين‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الأحكام‭ ‬الأخرى‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬سارية‭ ‬المفعول‭ ‬عند‭ ‬عقلاء‭ ‬تلك‭ ‬المرحلة‭ ‬أو على‭ ‬الأقل‭ ‬كانوا‭ ‬يطمحون‭ ‬الى‭ ‬ارساء‭ ‬تطبيقها،‭ ‬والتي‭ ‬أبقى‭  ‬الاسلام‭ ‬على‭  ‬الكثير‭ ‬منها،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬أحكاما‭ ‬جديدة‭  ‬على‭ ‬مجتمع‭ ‬العرب‭ ‬الذي‭ ‬نزل‭ ‬فيه‭ ‬الوحي،‭ ‬بل‭ ‬كانت‭ ‬معروفة‭ ‬عندهم‭ ‬ومحمودة‭ ‬عند‭ ‬عقلاءهم‭ ‬وهم‭ ‬أحناف‭ ‬الفترة‭ ‬الجاهلية‭ ‬بصورة‭ ‬خاصة،‭ ‬المتمسكين‭ ‬ببقايا‭ ‬الملة‭ ‬الإبراهيمية‭ ‬التوحيدية‭ ‬القائمة‭ ‬على‭ ‬مكارم‭ ‬الأخلاق‭ ‬ومحاسن‭ ‬الشيم‭. ‬وبمفهوم‭ ‬المخالفة،‭ ‬كان‭ ‬يعد‭ ‬حرمان‭ ‬المرأة‭ ‬من‭ ‬حقها‭ ‬في‭ ‬الإرث‭ ‬عند‭ ‬هؤلاء‭ ‬ظلما‭ ‬لها‭ ‬وخرقا‭ ‬لمبدأ‭ ‬وشيمة‭ ‬العدل‭ ‬كقيمة‭ ‬خلقية‭ ‬يتمدح‭ ‬بها‭. ‬هذا‭ ‬وقد‭ ‬اعتبر‭ ‬منحها‭ ‬ذلك‭ ‬النصيب‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الخطاب‭ ‬الإلهي،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬فقط‭ ‬نصف‭ ‬نصيب‭ ‬الرجل،‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬التاريخية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬أغلبية‭ ‬العوام‭ ‬من‭ ‬العرب،‭ ‬تحرمها‭ ‬منه‭ ‬نظرا‭ ‬لمكانتها‭ ‬المتدنية‭ ‬والضعيفة‭ ‬مقارنة‭ ‬به‭ ‬وعدم‭ ‬مساهمتها‭ ‬في‭ ‬الإنتاج،عدل‭ ‬ليس‭ ‬بعده‭ ‬عدل،‭ ‬وإنصاف‭ ‬ليس‭ ‬بعده‭ ‬إنصاف‭.‬

2‭‬ – كانت‭ ‬المرأة‭ ‬عامة‭ ‬قبل‭ ‬الاسلام‭ ‬لا‭ ‬تأخذ‭ ‬أي‭ ‬نصيب‭ ‬من‭ ‬الإرث‭ ‬لأنها‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬كانت‭ ‬أشبه‭ ‬ببضاعة‭ ‬لا‭ ‬غير‭ :‬‮ ‬

والدليل‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬عدة‭ ‬أمور‭ :‬‮ ‬

‮ ‬‭-‬انتشار‭ ‬أنواع‭ ‬من‭ ‬الأنكحة‭ ‬كانت‭ ‬تدل‭ ‬على‭ ‬ان‭ ‬المرأة‭ ‬كانت‭ ‬مجرد‭ ‬وسيلة‭ ‬للاستمتاع‭ ‬الجنسي‭ ‬وإنجاب‭ ‬الولد‭ ‬مثل‭ ‬زواج‭ ‬البدل‭ ‬(بمعنى‭ ‬ان‭ ‬يتبادل‭ ‬الأزواج‭ ‬زوجاتهم‭ ‬وكن‭ ‬كثيرات‭ ‬بينهم‭ ‬كان‭ ‬يتنازل‭ ‬زوج‭ ‬عن‭ ‬احدى‭ ‬زوجاته‭ ‬لآخر‭ ‬مقابل‭ ‬ان‭ ‬يتنازل‭ ‬الأخير‭ ‬عن‭ ‬إحدى‭ ‬زوجاته‭ ‬أيضا‭ ‬فمثلا‮  ‬أورد‭ ‬ابن‭ ‬كثير‭ ‬أن‭ ‬عيينة‭ ‬بن‭ ‬حصن‭ ‬الفيزاري‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬المؤلفة‭ ‬قلوبهم،‭ ‬اقترح‭ ‬على‭ ‬الرسول‭ ‬صلى الله عليه وسلم‭ ‬أن‭ ‬يتنازل‭ ‬له‭ ‬عن‭ ‬زوجته‭ ‬عائشة‭ ‬مقابل‭ ‬ان‭ ‬يتنازل‭ ‬له‭ ‬هو عن‭ ‬أجمل‭ ‬زوجاته‭ ‬فأجابه‭ ‬الرسول‭ ‬بكل‭ ‬هدوء‭ ‬إن‭ ‬الله‭ ‬حرم‭ ‬ذلك‭ ‬وهذا‭ ‬يدل‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬كان‭ ‬مألوفا‭ ‬عندهم‭…‬‮ ‬،‭ ‬هناك‭ ‬ايضا‭ ‬زواج‭ ‬الاستبضاع‭ (‬يقترح‭ ‬الزوج‭ ‬على‭ ‬إحدى‭ ‬زوجاته‭ ‬ان‭ ‬تضاجع‭ ‬شابا‭ ‬قوي‭ ‬البنية‭ ‬لتنجب‭ ‬منه‭ ‬نسلا‭ ‬قويا‭ ‬سينتسب‭ ‬للزوج‭ ‬وتستقوي‭ ‬به‭ ‬عشيرته‭ ‬أو قبيلته‭ ‬في‭ ‬الحروب‭ ‬والغارات‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تدور‭ ‬بين‭ ‬العشائر‭ ‬والقبائل‭ ‬وكذا‭ ‬لحماية‭ ‬قوافل‭ ‬القبيلة‭ ‬من‭ ‬الإغارة‭ ‬،‭(‬ثم‭ ‬هناك‭ ‬نكاح‭ ‬الضيزن‭ ‬ويقصد‭ ‬به‭ ‬أن‭ ‬يرمي‭ ‬الابن‭ ‬البكر‭ ‬ثوبه‭ ‬على‭ ‬زوجة‭ ‬أبيه‭ ‬المتوفى‭ ‬حديثا‭ ‬فتصبح‭ ‬زوجة‭ ‬له‭ ‬ارثا‭.‬

‮ ‬‭- ‬انتشار‭ ‬ظاهرة‭ ‬الزواج‭ ‬بنساء‭ ‬متعددات‭ ‬قد‭ ‬يبلغن‭ ‬الثمانية‭ ‬أو التسعة‭ ‬او أكثر‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الرقم‭ ‬فقد ‭‬‮«‬روى‭ ‬علماء‭ ‬التفسير‭ ‬أن‭ ‬قريشا‭ ‬كان‭ ‬الرجل‭ ‬منهم‭ ‬يتزوج‭ ‬العشر‭ ‬من‭ ‬النساء‭ ‬والأكثر‭ ‬والأقل»‭ ‬‮‬المفصل‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬العرب‭ ‬قبل‭ ‬الإسلام،‭ ‬جواد‭ ‬علي‭) ‬وأمثلة‭ ‬ذلك‭ ‬لا‭ ‬تحصى‭ ‬فاغلب‭ ‬الصحابة‭ ‬والعشرة‭ ‬المبشرين‭ ‬بالجنة‭ ‬تجاوز‭ ‬عدد‭ ‬زوجاتهم‭ ‬السبعة‭ ‬أو الثمانية‭ (‬عبد‭ ‬الرحمان‭ ‬بن‭ ‬عوف ‭ ‬20)‭ ‬زوجة،‭ ‬عمر‭ ‬بن‭ ‬الخطاب‭ ‬9‭ ‬زوجات،‭ ‬علي‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬طالب‭ ‬9‭ ‬زوجات،‭ ‬سعد‭ ‬بن‭ ‬ابي‭ ‬وقّاص‭ ‬11‭ ‬زوجة‭ (… ‬وكانت‭ ‬هذه‭ ‬الظاهرة‭ ‬عادية‭ ‬ومألوفة‭ ‬سواء‭ ‬قبل‭ ‬الرسالة‭ ‬أو بعد‭ ‬نزولها،‭ ‬والسبب‭ ‬هوانه‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬كان‭ ‬يعد‭ ‬الزواج‭ ‬بنساء‭ ‬كثيرات‭ ‬من‭ ‬مظاهر‭ ‬وجاهة‭ ‬الرجل‭ ‬وشرفه‭ ‬وعزه‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬الذي‭ ‬ينتمي‭ ‬إليه،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬يفهم‭ ‬لماذا‭ ‬كان‭ ‬للرسول‭ ‬ص‭ ‬تسع‭ ‬نسوة،‭ ‬كيف‭ ‬لا‭ ‬وهو كان‭‬‮ «‬سيد‭ ‬الناس‭ ‬وديان‭ ‬العرب‭‬‮»‬،‭ ‬والديان‭ ‬في‭ ‬لغة‭ ‬العرب‭ ‬هو‭: ‬الحاكم‭ ‬والسائس‭ ‬والقاضي‭ ‬والحاسب،‭ ‬وأصل‭ ‬الدين‭ ‬الطاعة‭ ‬ودان‭ ‬الناس‭ ‬لملكهم‭ ‬أي‭ ‬أطاعوه،‭ ‬فلا‭ ‬يعقل‭ ‬والحالة‭ ‬هاته‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬له‭ ‬زوجة‭ ‬واحدة‭.‬‮ ‬

‮ ‬‭-‬سرعة‭ ‬تداول‭ ‬النسوة‭ ‬بين‭ ‬الرجال‭ ‬بحيث‭ ‬كانت‭ ‬المرأة‭ ‬يتعاقب‭ ‬على‭ ‬الزواج‭ ‬بها‭ ‬خلال‭ ‬حياتها‭ ‬اربع‭ ‬اوخمس‭ ‬رجال،‭ ‬وكان‭ ‬هذا‭ ‬أمرا‭ ‬مألوفا‭ ‬عندهم‭ ‬لا‭ ‬نستسيغه‭ ‬نحن‭ ‬اليوم،من‭ ‬أمثلة‭ ‬ذلك‭ : ‬عاتكة‭ ‬بنت‭ ‬زيد‭ ‬وهي‭ ‬بنت‭ ‬عّم‭ ‬عمر‭ ‬بن‭ ‬الخطاب،‭ ‬تزوجها‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬بكر،‭ ‬فلما‭ ‬قتل‭ ‬في‭ ‬حصار‭ ‬الطائف‭ ‬تزوجها‭ ‬زيد‭ ‬بن‭ ‬الخطاب‭ ‬الذي‭ ‬قتل‭ ‬بدوره‭ ‬في‭ ‬معركة‭ ‬اليمامة‭ ‬ثم‭ ‬الزبير‭ ‬بن‭ ‬العوام‭ ‬الذي‭ ‬قتل‭ ‬كذلك‭ ‬فتزوجها‭ ‬الحسن‭ ‬بن‭ ‬علي‭ ‬الذي‭ ‬مات‭ ‬مسموما،‭ ‬وغيرهن‭ ‬كثير‭. ‬لهذا‭ ‬السبب‭ ‬نفهم‭ ‬لماذا‭ ‬جاء‭ ‬طلاق‭ ‬الزوج‭ ‬لزوجته‭ ‬في‭ ‬الإسلام‭ ‬يتم‭ ‬بكل‭ ‬سهولة‭ ‬أي‭ ‬بمجرد‭ ‬التلفظ‭ ‬بعبارته،‭ ‬نفهم‭ ‬كذلك‭ ‬لماذا‭ ‬أعطيت‭ ‬الزوجة‭ ‬مجرد‭ ‬الربع‭ ‬من‭ ‬الإرث‭ ‬أو الثمن‭ ‬من‭ ‬ميراث‭ ‬زوجها‭ ‬لانها‭ ‬حتما‭ ‬لن‭ ‬ترث‭ ‬من‭ ‬زوج‭ ‬واحد‭ ‬بل‭ ‬من‭ ‬أزواج‭ ‬آخرين‮ ‬ستتزوجهم‭ ‬بكل‭ ‬تأكيد‭ ‬ما‭ ‬دامت‭ ‬حياة‭ ‬الرجال‭ ‬إبان‭ ‬تلك‭ ‬المرحلة‭ ‬كانت‭ ‬دائما‭ ‬مهددة‭ ‬بالموت‭ ‬المحتوم‭ ‬بسبب‭ ‬الحروب‭ ‬والغارات‭ ‬التي‭ ‬كانوا‭ ‬يشاركون‭ ‬فيها‭ ‬دفاعا‭ ‬عن‭ ‬قبيلتهم‭ ‬أو قافلتهم‭ ‬التجارية‭.‬

‭-‬ يلاحظ‭ ‬أنه‭ ‬رغم‭ ‬كون‭ ‬القرآن‭ ‬وصف‭ ‬الزواج‭ ‬بأنه ‭‬‮«‬ميثاق‭ ‬غليظ‮» ‬‭‬كما‭ ‬أنه‭ ‬جعل‭ ‬العلاقة‭ ‬الزوجية‭ ‬من‭ ‬آياته،‭ ‬أي‭ ‬من‭ ‬روائع‭ ‬خلقه‭ ‬‮«‬ومن‭ ‬آياته‭ ‬أن‭ ‬خلق‭ ‬لكم‭ ‬من‭ ‬أنفسكم‭ ‬أزواجا‭ ‬لتسكنوا‭ ‬إليها‭ ‬وجعل‭ ‬بينكم‭ ‬مودة‭ ‬ورحمة،‭ ‬إن‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬لآيات‭ ‬لقوم‭ ‬يتفكرون‮»‬‭‬ فإن‭ ‬الزوجة‭ ‬بعد‭ ‬الممات‭ ‬استمرت‭ ‬لا‭ ‬تأخذ‭ ‬سوى‭ ‬نصيب‭ ‬ضئيل‭ ‬لا‭ ‬يتجاوز‭ ‬الربع‭ ‬في‭ ‬أحسن‭ ‬الأحوال‭ ‬وهو في‭ ‬الواقع‭ ‬نصيب‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬يبدو أنه‭ ‬لا‭ ‬يعكس‭ ‬عمق‭ ‬العلاقة‭ ‬الإنسانية‭ ‬الراقية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تجمعها‭ ‬والتي‭ ‬وصفها‭ ‬النص‭ ‬القرآني‭ ‬بكونها‭ ‬آية‭ ‬من‭ ‬آياته،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬وضع‭ ‬فرضه‭ ‬معطيان‭ = ‬الأول‭ ‬هو مراعاة‭ ‬الشريعة‭ ‬في‭ ‬تنزيلها‭ ‬للأحكام‭ ‬الجزئية‭ ‬التطبيقية‭ ‬العملية‭ ‬لمسألة‭ ‬التدرج‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬التشريع‭ ‬وهو أمر‭ ‬لاحظه‭ ‬الإمام‭ ‬الشاطبي‭ ‬سواء‭ ‬أثناء‭ ‬تمييزه‭ ‬بين‭ ‬الأحكام‭ ‬المكية‭ ‬والمدنية‭ ‬وكيف‭ ‬كانت‭ ‬الأولى‭ ‬بمثابة‭ ‬تمهيد‭ ‬لتنزيل‭ ‬الثانية،‭ ‬وكذلك‭ ‬عند‭ ‬حديثه‭ ‬عن‭ ‬التدرج‭ ‬الذي‭ ‬عرفته‭ ‬الآيات‭ ‬المتتالية‭ ‬المتعلقة‭ ‬بالخمر‭ ‬والتي‭ ‬انتهت‭ ‬بتحريمه‭ ‬نهائيا‭. ‬فبالنسبة‭ ‬لموضوعنا،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ممكنا‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬المجتمع‭ ‬الرجولي‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬المرأة‭ ‬تعد‭ ‬فيه‭‬‮ «‬بعلة‮» ‬‭‬للرجل‭ ‬أي‭ ‬أنها‭ ‬في‭ ‬حيازته‭ ‬وملكه،‭ ‬تعيش‭ ‬تحت‭ ‬وطأته‭ ‬محرومة‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬حق،‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يحدد‭ ‬لها‭ ‬نصيب‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬أورده‭ ‬القرآن‭ ‬والا‭ ‬ووجه‭ ‬بالرفض‭. ‬يجب‭ ‬ألا‭ ‬ننسى‭ ‬أن‭ ‬قسمة‭ ‬الارث‭ ‬خلقت‭ ‬جدلا‭ ‬كبيرا‭ ‬بين‭ ‬صفوف‭ ‬رجال‭ ‬المجتمع‭ ‬العربي‭ ‬عند‭ ‬نزولها‭ ‬بل‭ ‬عبر‭ ‬البعض‭ ‬منهم‭ ‬صراحة‭ ‬عن‭ ‬رفضها‭. ‬فكما‭ ‬أوضحت‭ ‬سابقا،‭  ‬مسألة‭ ‬التدرج‭ ‬في‭ ‬الأحكام‭ ‬التشريعية‭ ‬وضرورة‭ ‬مراعاتها‭ ‬للقيم‭ ‬العرفية‭ ‬والسلوكية‭ ‬والذهنية‭ ‬للمجتمع‭ ‬الذي‭ ‬يراد‭ ‬تطبيقها‭ ‬فيه،‭ ‬أمر‭ ‬تفترضه‭ ‬دائما‭ ‬ومسبقا‭ ‬كل‭ ‬القوانين‭ ‬المراد‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬تحظى‭ ‬بحد‭ ‬ادنى‭ ‬من‭ ‬الاحترام‭ ‬والطاعة‭ ‬الأخلاقية‭ ‬له‭ ‬حتى‭ ‬تضمن‭ ‬أن‭ ‬تصير‭ ‬مع‭ ‬الوقت‭ ‬نافذة‭ ‬على‭ ‬الجميع‭ ‬في‭ ‬الوسط‭ ‬الذي‭ ‬شرعت‭ ‬لأجله،‭ ‬بما‭ ‬فيهم‭ ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬رفضوها‭ ‬في‭ ‬البداية‭. ‬

المعطى‭ ‬الثاني‭ ‬يتجلى‭ ‬في‭ ‬الإمكانيات‭ ‬المتعددة‭ ‬للزوجة‭ ‬الأرملة،‭ ‬وهذا‭ ‬واقع‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬زال‭ ‬جاريا،‭ ‬بالارتباط‭ ‬برجال‭ ‬اخرين‭ ‬سترث‭ ‬منهم‭ ‬حتما‭ ‬كما‭ ‬أوضحت‭ ‬سابقا‭. ‬لذلك‭ ‬كان‭ ‬سيعد‭ ‬آنذاك‭ ‬إثراء‭ ‬بلا‭ ‬سبب‭ ‬ان‭ ‬ترث‭ ‬المرأة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ربع‭ ‬تركة‭ ‬زوجها‭.‬

أشير‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬أيامنا‭ ‬هذه‭ ‬يعد‭ ‬أمرا‭ ‬مشينا‭ ‬ان‭ ‬يتعاقب‭ ‬على‭ ‬المرأة‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬زوجين‭ ‬خلال‭ ‬طول‭ ‬حياتها‭.‬

3 ‭-‬ النظام‭ ‬الاجتماعي‭ ‬القائم‭ ‬آنذاك‭ ‬كان‭ ‬قبليا‭ ‬عشائريا‭ ‬وليس‭ ‬أسريا‭ ‬مما‭ ‬يبرر‭ ‬عدم‭ ‬توريث‭ ‬المرأة‭ :‬

لم‭ ‬يكن‭ ‬بإمكان‭ ‬المرأة‭ ‬أن‭ ‬ترث‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬بنية‭ ‬اجتماعية‭ ‬نواتها‭ ‬هي‭ ‬القبيلة‭ ‬أو العشيرة‭ ‬وليس‭ ‬الاسرة‭ ‬النووية‭ ‬المتكونة‭ ‬من‭ ‬زوج،‭ ‬زوجة‭ ‬وأبناء‭. ‬فبغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬ظاهرة‭ ‬التفاخر‭ ‬الشفاهي‭ ‬بالانتساب‭ ‬الى‭ ‬القبيلة‭ ‬الأبوية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬سائدة‭ ‬(في‭ ‬الشعر‭ ‬بصورة‭ ‬خاصة‭ (‬او بغناها‭ ‬المادي‭ ‬أو قوتها‭ ‬العسكرية،‭ ‬كانت‭ ‬كل‭ ‬الأنشطة‭ ‬الاخرى‭ ‬التي‭ ‬يقوم‭ ‬بها‭ ‬أعضاؤها‭ ‬من‭ ‬الرجال،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الزواج،‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تصب‭ ‬لمصلحة‭ ‬القبيلة‭ ‬وتقوية‭ ‬مكانتها‭ ‬العسكرية‭ ‬والمادية‭ ‬والرمزية‭ ‬بين‭ ‬القبائل‭ ‬الأخرى‭ ‬بشكل‭ ‬عام‭ ‬(زواج‭ ‬الاستبضاع‭ ‬والضيزن‮ ‬كمثال)‭ .‬ولقد‭ ‬كان‭ ‬أهم‭ ‬نشاط‭ ‬يدر‭ ‬الدخل‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬هو التجارة‭ ‬عبر‭ ‬القوافل‭ ‬أو غزو القبائل‭ ‬الاخرى‭ ‬للاستيلاء‭ ‬على‭ ‬ممتلكاتها‭ ‬(ماشية،‭ ‬ذهب،‭ ‬مواد‭ ‬غذائية‭ ‬وكذلك‭ ‬سبي‭ ‬نساءهم‭ ‬وأطفالهم‭ ‬الصغار‭ ‬لبيعهم‭ ‬في‭ ‬الأسواق‭ ‬،‭(‬فالعرب‭ ‬كانوا‭ ‬يحتقرون‭ ‬الزراعة‭ ‬والمهن‭ ‬اليدوية‭ ‬الحرفية‭) ‬ربما‭ ‬لا‭ ‬زالوا‭ ‬الى‭ ‬اليوم)‭ .‬اما‭ ‬التجارة‭ ‬فكانت‭ ‬نشاطا‭ ‬مرغوبا‭ ‬فيه‭ ‬وهناك‭ ‬حديث‭ ‬عن‭ ‬الرسول‭ ‬ص‭ ‬يقول‭ ‬فيه‭ ‬إن‭ ‬تسعة‭ ‬أعشار‭ ‬الرزق‭ ‬في‭ ‬التجارة،‭ ‬وحديث‭ ‬آخر‭ ‬منسوب‭ ‬اليه‭ ‬يقول‭ ‬فيه‭‬‮ : «‬جعل‭ ‬الله‭ ‬رزق‭ ‬هذه‭ ‬الأمة‭ ‬في‭ ‬سنابك‭ ‬خيلها‭ ‬وأزجة‭ ‬رماحها‮»‬‭‬ وهوما‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬التجارة‭ ‬والغزو وجمع‭ ‬الغنائم‭ ‬من‭ ‬القبائل‭ ‬الأخرى‭ ‬كان‭ ‬مصدرا‭ ‬مألوفا‭ ‬وممتدحا‭ ‬عندهم‭. ‬لهذا‭ ‬السبب‭ ‬كان‭ ‬توريث‭ ‬المرأة‭ ‬يعد‭ ‬استنزافا‭ ‬ماديا‭ ‬للقبيلة‭ ‬التي‭ ‬تنتمي‭ ‬إليها‭ ‬هذه‭ ‬المرأة‭ ‬التي‭ ‬ربما‭ ‬قد‭ ‬تتزوج‭ ‬من‭ ‬رجل‭ ‬ينتمي‭ ‬الى‭ ‬قبيلة‭ ‬او عشيرة‭ ‬او رهط‭ ‬آخر‭ ‬فتساهم‭ ‬بالتالي‭ ‬في‭ ‬تقويته‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬القبيلة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تنتمي‭ ‬إليها،‭ ‬فالرجل‭ ‬العربي‭ ‬كان‭ ‬يقول‭ ‬لابنته‭ ‬أو أخته‭ ‬اذا‭ ‬زوجها‭ ‬من‭ ‬بعيد‭ ‬غير‭ ‬قريب ‭‬‮«‬لا‭ ‬أيسرت‭ ‬ولا‭ ‬أنكرت،‭ ‬فإنك‭ ‬تدنين‭ ‬البعداء‭ ‬وتلدين‭ ‬الأعداء‮» ‬‭‬فغالب‭ ‬الميراث‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬وجوده‭ ‬كان‭ ‬إبلا،‭ ‬ماشية،‭ ‬أحصنة،‭ ‬مواد‭ ‬غذائية،‭ ‬معادن‭ ‬نفيسة‭ ‬أو أراضي‭ ‬خصبة‭ ‬محصورة‭ ‬في‭ ‬أماكن‭ ‬معروفة‭ ‬ومحدودة‭ ‬،‭ ‬لذلك‭ ‬كانت‭ ‬القبيلة‭ ‬ترفض‭ ‬توريث‭ ‬المرأة‭ ‬ولعل‭ ‬الواقعة‭ ‬التالية‭ ‬التي‭ ‬تشكل‭ ‬سبب‭ ‬نزول‭ ‬آية‭ ‬الإرث‭ ‬توضح‭ ‬ذلك‭ :‬

‮ «‬يذكر‭ ‬علماء‭ ‬الأخبار‭ ‬أن‭ ‬رجلاً‭ ‬من‭ ‬الأنصار‭ ‬مات‭ ‬قبل‭ ‬نزول‭ ‬آية‭ ‬المواريث،‭ ‬وترك‭ ‬أربع‭ ‬بنات،‭ ‬فأخذ‭ ‬بنوعمه‭ ‬ماله‭ ‬كله‭. ‬فجاءت‭ ‬امرأته‭ ‬النبي‭ ‬تشتكي‭ ‬مما‭ ‬فعله‭ ‬بنوعم‭ ‬المتوفى‭ ‬ومن‭ ‬سوء‭ ‬حالها‭ ‬وعدم‭ ‬تمكنها‭ ‬من‭ ‬إعالة‭ ‬بناتها،‭ ‬فنزل‭ ‬الوحي‭) ‬للرجال‭ ‬نصيب‭ ‬مما‭ ‬ترك‭ ‬الوالدان‭ ‬والأقربون‭ ‬وللنساء‭ ‬نصيب‭ ‬مما‭ ‬ترك‭ ‬الوالدان‭ ‬والأقربون)‮ ‬‭. ‬ثم‭ ‬نزلت‭ ‬آية‭ ‬الميراث‭: ‬يوصيكم‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬أولادكم‭ ‬للذكر‭ ‬مثل‭ ‬حظ‭ ‬الأنثيين‭.‬ وبذلك‭ ‬انتفت‭ ‬سنة‭ ‬الجاهليين‭ ‬في‭ ‬عدم‭ ‬توريث‭ ‬البنات‭.‬

وقد‭ ‬نزلت‭ ‬الآيتان‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أن‭ ‬أهل‭ ‬الجاهلية‭ ‬كَانوا‭ ‬يورثون‭ ‬الذكور‭ ‬دون‭ ‬الإناث‭. ‬فكان‭ ‬“النساء‭ ‬لا‭ ‬يرثن‭ ‬في‭ ‬الجاهلية‭ ‬من‭ ‬الآباء،‭ ‬وكان‭ ‬الكبيريرث‭ ‬ولا‭ ‬يرث‭ ‬الصغير،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬ذكرا‭. ‬وقد‭ ‬ذَكر‭ ‬بعض‭ ‬العلماء‭ ‬ان‭ ‬آية‭: ‬“للرجال‭ ‬نصيب‭ ‬مما‭ ‬ترك‭ ‬الوالدان‭ ‬والأقربون”،‭ ‬“نزلت‭ ‬في‭ ‬أم‭ ‬كحة‭ ‬وابنة‭ ‬كحة‭ ‬وثعلبة‭ ‬وأوس‭ ‬ابن‭ ‬سويد،‭ ‬وهم‭ ‬من‭ ‬الأنصار‭. ‬كان‭ ‬أحدهم‭ ‬زوجها‭ ‬والآخر‭ ‬عم‭ ‬ولدها‭. ‬فقالت‭: ‬يا‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬توفي‭ ‬زوجي‭ ‬وتْركتي‭ ‬وابنته،‭ ‬فلم‭ ‬نورث‭ ‬فقال‭ ‬عم‭ ‬ولدها‭: ‬يا‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬لا‭ ‬تركب‭ ‬فرساً،‭ ‬ولاتشمل‭ ‬كلا‭. ‬ولا‭ ‬تنكأ‭ ‬عدواً‭ ‬يكب‭ ‬عليها،‭ ‬ولا‭ ‬تكتسب‭. ‬فنزلت‭ ‬للرجال‭ ‬نصيب‭ ‬مما‭ ‬ترك‭ ‬الوالدان‭ ‬والأقربون‭. ‬وللنساء‭ ‬نصيب‭ ‬مما‭ ‬ترك‭ ‬الوالدان‭ ‬والأقربون،‭ ‬مما‭ ‬قلّ‭ ‬منه‭ ‬أو كثر،‭ ‬نصيباً‭ ‬مفروضاً”‭. ‬وذكروا‭ ‬ان‭ ‬نزول‭ ‬الآية‭ ‬“يوصيكم‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬أولادكم‭ ‬للذكر‭ ‬مثل‭ ‬حظ‭ ‬الأنثيين”،‭ ‬انما‭ ‬كان‭ ‬“لأن‭ ‬أهل‭ ‬الجاهلية‭ ‬كانوا‭ ‬لا‭ ‬يقسمون‭ ‬من‭ ‬ميراث‭ ‬الميت‭ ‬لأحد‭ ‬من‭ ‬ورثته‭ ‬بعده‭ ‬ممن‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬يلاقي‭ ‬العدو ولا‭ ‬يقاتل‭ ‬في‭ ‬الحروب‭ ‬من‭ ‬صغار‭ ‬ولده‭ ‬ولا‭ ‬للنساء‭ ‬منهم‭. ‬وكانوا‭ ‬يخصون‭ ‬بذلك‭ ‬المقاتلة‭ ‬دون‭ ‬الذرية،‭ ‬فأخبر‭ ‬الله‭ ‬جل‭ ‬ثناؤه‭ ‬ان‭ ‬ما‭ ‬خلفه‭ ‬الميت‭ ‬بين‭ ‬من‭ ‬سمي‭ ‬وفرض‭ ‬له‭ ‬ميراثاً‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الآية‭.‬وفي‭ ‬آخر‭ ‬هذه‭ ‬السورة‭ ‬فقال‭: ‬ في‭ ‬صغار‭ ‬ولد‭ ‬الميت‭ ‬وكبارهم‭ ‬وإناثهم‭ ‬لهم‭ ‬ميراث‭ ‬أبيهم،‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬له‭ ‬وارث‭ ‬غيرهم‭ ‬للذكر‭ ‬مثل‭ ‬حظ‭ ‬الأنثيين”‭. ‬وذكر‭ ‬انه‭ ‬“لما‭ ‬نزلت‭ ‬الفرائض‭ ‬التي‭ ‬فرض‭ ‬الله‭ ‬فيها‭ ‬مما‭ ‬فرض‭ ‬للولد‭ ‬الذكر‭ ‬والأنثى‭ ‬والأبوين‭ ‬كرهها‭ ‬الناس‭ ‬أو بعضهم،‭ ‬وقالوا‭: ‬تعطى‭ ‬المرأة‭ ‬الربع‭ ‬والثمن،‭ ‬وتعطى‭ ‬الابنة‭ ‬النصف،‭ ‬ويعطى‭ ‬الغلام‭ ‬الصغير‭ ‬وليس‭ ‬من‭ ‬هؤلاء‭ ‬أحد‭ ‬يقاتل‭ ‬القوم‭ ‬ولا‭ ‬يحوز‭ ‬الغنيمة،‭ ‬اسكتوا‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الحديث‭ ‬لعل‭ ‬رسول‭ ‬الله،‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم،‭ ‬ينساه‭ ‬أو نقول‭ ‬له‭ ‬فيغيره، فقال‭ ‬بعضهم‭: ‬يا‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬أ‭ ‬نعطي‭ ‬الجارية‭ ‬نصف‭ ‬ما‭ ‬ترك‭ ‬أبوها،‭ ‬وليست‭ ‬تركب‭ ‬الفرس‭ ‬ولا‭ ‬تقاتل‭ ‬القوم؟‭ ‬ونعطي‭ ‬الصبي‭ ‬الميراث،‭ ‬وليس‭ ‬يغني‭ ‬شيئاً،‭ ‬وكانوا‭ ‬يفعلون‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬الجاهلية‭ ‬لا‮ ‬يعطون‭ ‬الميراث‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬قاتل،‭ ‬ويعطونه‭ ‬الأكبر‭ ‬فالأكبر‮ ‬‭. ‬وعجز‭ ‬اليتامى‭ ‬عن‭ ‬الدفاع،‭ ‬وعن‭ ‬تحصيل‭ ‬حقهم‭ ‬في‭ ‬الميراث،‭ ‬جعل‭ ‬الورثة‭ ‬الكبار‭ ‬يأكلون‭ ‬اموالهم‭ ‬وحقوقهم،‭ ‬ولا‭ ‬يؤدون‭ ‬لهم‭ ‬نصيباً‭ ‬في‭ ‬الإرث‭. ‬ولهذا‭ ‬وبخ‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬أهل‭ ‬الجاهلية‭ ‬على‭ ‬اكلهم‭ ‬أموال‭ ‬اليتامى،‭ ‬وحرم‭ ‬ذلك‭ ‬عليهم،‭ ‬وحافظ‭ ‬على‭ ‬نصيبهم‭ ‬فيه،‭ ‬وحمى‭ ‬اليتيم‭ ‬ودافع‭ ‬عنه‭ ‬كثيراً،‭ ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬الرسول‭ ‬نفسه‭ ‬يتيما،‭ ‬لاقى‭ ‬من‭ ‬قومه‭ ‬ما‭ ‬يلاقيه‭ ‬كلّ‭ ‬يتيم‭.‬

هناك‭ ‬ملاحظات‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نستشفها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬هذا‭ ‬الخبر‭ ‬الذي‭ ‬أورد‭ ‬سبب‭ ‬نزول‭ ‬اية‭ ‬الإرث‭ :‬

‭ – ‬كون‭ ‬الإرث‭ ‬كان‭ ‬ينظر‭ ‬إليه‭ ‬كأنه‭ ‬غنيمة‭ ‬حرب‭ ‬يؤول‭ ‬الى‭ ‬الرجال‭ ‬الأشداء‭ ‬والوجهاء‭ ‬إذ‭ ‬كان‭ ‬يتم‭ ‬اقتسامه‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الأساس‭ ‬فلا‭ ‬تأخذ‭ ‬منه‭ ‬لا‭ ‬المرأة‭ ‬ولا‭ ‬الصغير‭ ‬ولا‭ ‬الرجل‭ ‬العاجز‭.‬

‭ – ‬كون‭ ‬التقسيم‭ ‬الجديد‭ ‬الذي‭ ‬جاء‭ ‬به‭ ‬القران‭ ‬شكل‭ ‬ثورة‭ ‬جذرية‭ ‬على‭ ‬التقسيم‭ ‬القديم‭ ‬وهو الأمر‭ ‬الذي‭ ‬رفضه‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬الأمر‭.‬

‭- ‬ كون‭ ‬التقسيم‭ ‬الجديد‭ ‬جاء‭ ‬كأحد‭ ‬السبل‭ ‬التمهيدية‭ ‬نحو تحويل‭ ‬بنية‭ ‬المجتمع‭ ‬العربي‭ ‬من‭ ‬بنية‭ ‬قبلية‭ ‬عشائرية‭ ‬الى‭ ‬بنية‭ ‬أسرية‭ ‬يكون‭ ‬فيها‭ ‬أبناء‭ ‬وبنات‭ ‬وزوجة‭ ‬الهالك‭ ‬مركز‭ ‬الاهتمام‭ ‬بحيث‭ ‬يحظوا‭ ‬بالنصيب‭ ‬الأكبر‭ ‬منه،‭ ‬بل‭ ‬حتى‭ ‬الجنين‭ ‬وهو لازال‭ ‬في‭ ‬بطن‭ ‬أمه،‭ ‬فيما‭ ‬تقلص‭ ‬حجم‭ ‬نصيب‭ ‬باقي‭ ‬أقارب‭ ‬الهالك‭ ‬خاصة‭ ‬عصبته‭ ‬الى‭ ‬حد‭ ‬كبير‭.‬

فكما‭ ‬أشرت‭ ‬آنفا،‭ ‬حاولت‭ ‬رسالة‭ ‬الإسلام‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬السمة‭ ‬الأخلاقية‭ ‬المثالية‭ ‬التي‭ ‬اتسمت‭ ‬بها‭ ‬معظم‭ ‬أحكامها‭ ‬وهو أمر‭ ‬أكده‭ ‬الإمام‭ ‬الشاطبي‭ ‬مرارا‭ ‬بل‭ ‬وبنى‭ ‬عليه‭ ‬كامل‭ ‬نظريته‭ ‬التشريعية‭ ‬الجديدة،‭ ‬أن‭ ‬تعكس‭ ‬هذه‭ ‬الروح‭ ‬الأخلاقية‭ ‬في‭ ‬أهم‭ ‬نواة‭ ‬مجتمعية‭ ‬وهي‭ ‬الأسرة.‭‬ في‭ ‬الواقع،‭ ‬تعد‭ ‬محاولة‭ ‬الإسلام‭ ‬هاته‭ ‬في‭ ‬تحويل‭ ‬المجتمع‭ ‬العربي‭ ‬آنذاك‭ ‬من‭ ‬مجتمع‭ ‬عشائري‭ ‬قبلي‭ ‬الى‭ ‬مجتمع‭ ‬أسري‭ ‬نووي،‭  ‬من‭ ‬أعظم‭ ‬الإصلاحات‭ ‬التي‭ ‬رامت‭ ‬الرسالة‭ ‬المحمدية‭ ‬ادخالها‭ ‬على‭ ‬النوع‭ ‬البشري‭ ‬كديانة‭ ‬انسانية‭ ‬عامة‭ ‬وخالدة‭ ‬جديرة‭ ‬بالاعتناق‭. ‬ذلك‭ ‬أنه‭ ‬بغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬المكانة‭ ‬الجديدة‭ ‬التي‭ ‬اعتلتها‭ ‬المرأة‭ ‬بفضل‭ ‬الإسلام‭ ‬في‭ ‬سلم‭ ‬الحقوق‭ ‬المجتمعية‭ ‬من‭ ‬جعلها‭ ‬مثلا‭ ‬طرفا‭ ‬أصلي‭ ‬في‭ ‬عقد‭ ‬الزواج‭ ‬بعدما‭ ‬كانت‭ ‬مجرد‭ ‬موضوع‭ ‬له،‭ ‬وبتحديد‭ ‬عدد‭ ‬الزوجات‭ ‬في‭ ‬أربع‭ ‬مع‭ ‬اشتراط‭ ‬العدل،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬حصر‭ ‬له،‭ ‬وبتحريم‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الأنكحة‭ ‬الجاهلية‭ ‬التي‭ ‬تحط‭ ‬من‭ ‬قدرها‭ ‬وبتمكينها‭ ‬شخصيا‭ ‬من‭ ‬مهرها‭ ‬ومن‭ ‬حقوقها‭ ‬في‭ ‬تحديد‭ ‬زمن‭ ‬العدة‭ ‬من‭ ‬وفاة‭ ‬أو طلاق‭ ‬وما‭ ‬يترتب‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬نفقة‭ ‬ومتعة‭ ‬وسكن‭ ‬بعدما‭ ‬كانت‭ ‬لا‭ ‬تأخذ‭ ‬شيئا‭ ‬منه‭ ‬الى‭ ‬غير‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬الامتيازات‭ ‬الجديدة‭ ‬التي‭ ‬رفعت‭ ‬مكانتها‭ ‬المعنوية‭ ‬والمادية،‭ ‬فقد‭ ‬بدت‭ ‬هذه‭ ‬الامتيازات‭ ‬وكأنها‭ ‬تمهد‭ ‬لدور‭ ‬حيوي،‭ ‬جديد‭ ‬كليا،‭ ‬ستضطلع‭ ‬به‭ ‬المرأة‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬المسلم‭ ‬الجديد‭ ‬سيكون‭ ‬موضوعه‭ ‬الأساس‭ ‬هو الأطفال‭ ‬الذين‭ ‬سيولدون‭ ‬مستقبلا‭ ‬باعتبارهم‭ ‬أجيال‭ ‬أو ناشئة‭ ‬مسلمة‭ ‬قادمة،‭ ‬من‭ ‬الضروري‭ ‬أن‭ ‬يروا‭ ‬النور‭ ‬وهم‭ ‬ضمن‭ ‬أسرة‭ ‬نووية‭ ‬متزنة‭ ‬أخلاقيا‭ ‬وحقوقيا،‭ ‬مفعمة‭ ‬بالمودة‭ ‬والرحمة،‭ ‬لا‭ ‬ضمن‭ ‬عائلة‭ ‬أوعشيرة‭ ‬ممتدة،‭ ‬ملؤها‭ ‬الأحقاد‭ ‬والصراع‭ ‬على‭ ‬الزعامة‭ ‬والغنيمة،‭ ‬غير‭ ‬محفوظة‭ ‬الحقوق‭ ‬لجميع‭ ‬الأفراد‭ ‬المكونين‭ ‬لها‭. ‬

‭ ‬فنهى‭ ‬الإسلام‭ ‬بصورة‭ ‬مطلقة‭ ‬عن‭ ‬وأد‭ ‬البنات‭ ‬وإيلاء‭ ‬أهمية‭ ‬بالغة‭ ‬لاختيار‭ ‬الزوجة‭ ‬الصالحة‭ ‬وضرورة‭ ‬معاملتها‭ ‬بلطف‭ ‬وانسانية‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬الزوجية،‭ ‬مع‭ ‬أفرادها‭ ‬قبل‭ ‬ذلك‭ ‬وهي‭ ‬لا‭ ‬زالت‭ ‬طفلة‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬أبيها،‭ ‬المساواة‭ ‬التامة‭ ‬مع‭ ‬الطفل‭ ‬الذكر‭ ‬في‭ ‬المعاملة‭ ‬الطيبة‭ ‬والتربية‭ ‬والتعليم،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬إلا‭ ‬لهذه‭ ‬الغاية‭.‬

‭ ‬إن‭ ‬تأكيد‭ ‬الشريعة،‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى،‭ ‬على‭ ‬اعتبار‭ ‬الأطفال،‭ ‬سواء‭ ‬كانوا‭ ‬بنين‭ ‬أو بنات،‭ ‬بمثابة‭ ‬صفحات‭ ‬بيضاء‭ ‬يولدون‭ ‬على‭ ‬الفطرة‭ ‬وهو ما‭ ‬أورده‭ ‬حديث‭‬‮ «‬كل‭ ‬مولود‭ ‬يولد‭ ‬على‭ ‬الفطرة‮»‬،‭ ‬عزز‭ ‬من‭ ‬حرصها‭ ‬على‭ ‬ضرورة‭ ‬رعايتهم‭ ‬وتلقينهم‭ ‬التربية‭ ‬الحسنة‭ ‬من‭ ‬يوم‭ ‬ازديادهم‭ ‬مع‭ ‬تحميل‭ ‬أبويهم‭ ‬معا‭ ‬هذه‭ ‬المسؤولية‭ ‬الجسيمة‭ ‬(حديث‭ ‬كلكم‭ ‬راع‭ ‬وكلكم‭ ‬مسؤول‭ ‬عن‭ ‬رعيته)‭ .‬عزز‭ ‬كذلك‭ ‬حرصها‭ ‬على‭ ‬ضرورة‭ ‬تعليمهم‭ ‬دون‭ ‬استثناء‭ ‬أوتمييز‭ ‬جنسي‭ ‬عند‭ ‬بلوغهم‭ ‬السن‭ ‬المؤهل‭ ‬لذلك‭ ‬وبغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬انتماءهم‭ ‬الطبقي‭. ‬لقد‭ ‬بدا‭ ‬الإسلام‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تعاليمه‭ ‬الجديدة‭ ‬الخاصة‭ ‬بالمرأة‭ ‬وتنشئة‭ ‬الأطفال‭ ‬وكأنه‭ ‬يراهن‭ ‬بهم‭ ‬على‭ ‬مستقبله‭ ‬العلمي‭ ‬والحضاري‭.  ‬فحسب‭ ‬أحد‭ ‬الباحثين‭ ‬الغربيين‭ ‬الذي‭ ‬اعتبر‭ ‬أن‭ ‬الحق‭ ‬العام‭ ‬والشامل‭ ‬في‭ ‬التعليم‭‬‮ «‬يعد‭ ‬من‭ ‬أعظم‭ ‬الإصلاحات‭ ‬التاريخية‭ ‬التي‭ ‬أدخلها‭ ‬الاسلام‭ ‬على‭ ‬عالم‭ ‬الطفولة‭……‬‮»‬‭ ‬

‭ -‬كون‭ ‬تقسيم‭ ‬الإرث‭ ‬قبل‭ ‬نزول‭ ‬الوحي‭ ‬كان‭ ‬مرتبطا‭ ‬بعنصر‭ ‬الانتاج‭ ‬أو الاكتساب،‭ ‬فالفرد‭ ‬المنتِج‭ ‬بشكل‭ ‬عام،‭ ‬سواء‭ ‬كان‭ ‬تجارة‭ ‬بالقوافل‭ ‬أوغزوا‭ ‬وجمعا‭ ‬للغنيمة،‭ ‬هو من‭ ‬كان‭ ‬يأخذ‭ ‬نصيبا‭ ‬منه‭ ‬ولا‭ ‬مجال‭ ‬فيه‭ ‬للطرف‭ ‬الضعيف‭ ‬كالأطفال‭ ‬والنساء‭ ‬والعجزة‭.‬

‭- ‬كون‭ ‬ان‭ ‬الشريعة‭ ‬الاسلامية‭ ‬بإحداثها‭ ‬نصيبا‭ ‬في‭ ‬الإرث‭ ‬للمرأة‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬لتحلم‭ ‬به‭ ‬قبل‭ ‬نزول‭ ‬الوحي،‭ ‬شكل‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬قطيعة‭ ‬وثورة‭ ‬حقيقية‭ ‬على‭ ‬وضعها‭ ‬المهين‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تعيشه‭ ‬قبل‭ ‬ذلك،‭ ‬ذلك‭ ‬انه‭ ‬بالإضافة‭ ‬الى‭ ‬الأحاديث‭ ‬النبوية‭ ‬المتعددة‭ ‬التي‭ ‬أوصت‭ ‬بها‭ ‬خيرا‭ ‬والتي‭ ‬عضدتها‭ ‬معاملة‭ ‬الرسول‭ ‬ص‭ ‬الطيبة‭ ‬والانسانية‭ ‬لزوجاته‭ ‬وبناته،‭ ‬فقد‭ ‬فرض‭ ‬الإسلام‭ ‬على‭ ‬الرجل‭ ‬الإنفاق‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬ماله‭ ‬ولو كانت‭ ‬غنية‭ ‬مشترطا‭ ‬عليها‭ ‬فقط‭ ‬طاعة‭ ‬زوجها‭ ‬بالمعروف‭ ‬وحسن‭ ‬معاملتها‭ ‬له،‭ ‬ففي‮ ‬حديث‭ ‬أسماء‭ ‬بنت‭ ‬يزيد‭ ‬الأشهلية‭ ‬الذي‭ ‬أخرجه‭ ‬البيهقي‭ ‬في‭ ‬شعب‭ ‬الإيمان‭ ‬أنها‭ ‬جاءت‭ ‬لرسول‭ ‬الله‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬فقالت‭: ‬بأبي‭ ‬أنت‭ ‬وأمي‭ ‬يا‭ ‬رسول‭ ‬الله،‭ ‬أنا‭ ‬وافدة‭ ‬النساء‭ ‬إليك،‭ ‬إن‭ ‬الله‭ ‬عز‭ ‬وجل‭ ‬بعثك‭ ‬إلى‭ ‬الرجال‭ ‬والنساء‭ ‬كافة،‭ ‬فآمنا‭ ‬بك‭ ‬وبإلهك،‭ ‬وإنا‭ ‬معشر‭ ‬النساء‭ ‬محصورات‭ ‬مقصورات،‭ ‬قواعد‭ ‬بيوتكم‭ ‬ومقضى‭ ‬شهواتكم،‭ ‬وحاملات‭ ‬أولادكم،‭ ‬وإنكم‭ ‬معشر‭ ‬الرجال‭ ‬فُضِّلتم‭ ‬علينا‭ ‬بالجمع‭ ‬والجماعات‭ ‬وعيادة‭ ‬المرضى‭ ‬وشهود‭ ‬الجنائز،‭ ‬والحج‭ ‬بعد‭ ‬الحج،‭ ‬وأفضل‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬الجهاد‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬الله‭ ‬عز‭ ‬وجل،‭ ‬وإن‭ ‬الرجل‭ ‬منكم‭ ‬إذا‭ ‬خرج‭ ‬حاجاً‭ ‬أومجاهداً‭ ‬حفظنا‭ ‬لكم‭ ‬أموالكم،‭ ‬وغزلنا‭ ‬أثوابكم،‭ ‬وربينا‭ ‬لكم‭ ‬أولادكم،‭ ‬أفلا‭ ‬نشارككم‭ ‬في‭ ‬الأجر؟‭ ‬فالتفت‭ ‬النبي‭ -‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭- ‬إلى‭ ‬أصحابه‭ ‬ثم‭ ‬قال‭: ‬هل‭ ‬سمعتم‭ ‬بمقالة‭ ‬امرأة‭ ‬قط‭ ‬أحسن‭ ‬من‭ ‬مساءلتها‭ ‬في‭ ‬أمر‭ ‬دينها‭ ‬من‭ ‬هذه؟‭ ‬فقالوا‭ ‬يا‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬ما‭ ‬ظننا‭ ‬أن‭ ‬امرأة‭ ‬تهتدي‭ ‬إلى‭ ‬مثل‭ ‬هذا،‭ ‬فالتفت‭ ‬النبي‭ – ‬عليه‭ ‬الصلاة‭ ‬والسلام‭- ‬ إليها،‭ ‬ثم‭ ‬قال‭: ‬انصرفي‭ ‬أيتها‭ ‬المرأة‭ ‬وأعلمي‭ ‬من‭ ‬خلفك‭ ‬من‭ ‬النساء،‭ ‬أن‭ ‬حسن‭ ‬تبعُّل‭ ‬إحداكن‭ ‬لزوجها‭ ‬وطلبها‭ ‬مرضاته،‭ ‬واتباعها‭ ‬موافقته،‭ ‬يعدل‭ ‬ذلك‭ ‬كله‭)‬·‭ ‬فانصرفت‭ ‬أسماء‭ ‬وهي‭ ‬تهلل)·

ان‭ ‬مسألة‭ ‬تفضيل‭ ‬بقاء‭ ‬المرأة‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬زوجها‭ ‬لتربية‭ ‬الأبناء‭ ‬والسهر‭ ‬على‭ ‬مرضاته‭ ‬والذي‭ ‬يتعين‭ ‬ان‭ ‬يقابله‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬الزوج،‭ ‬كطرف‭ ‬مقابل،‭ ‬حسن‭ ‬معاملته‭ ‬وتحمل‭ ‬مسؤوليته‭ ‬المادية‭ ‬والتربوية‭ ‬ازاءها‭ ‬وازاء‭ ‬أسرته‭ ‬وهو ما‭ ‬تفرضه‭ ‬عليه‭ ‬دينيا‭ ‬وأخلاقيا‭  ‬معايير المروءة‭ ‬العربية‭ ‬والتقوى‭ ‬الدينية،‭ ‬واقع‭ ‬فرضته‭ ‬الظروف‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والأمنية‭ ‬لذلك‭ ‬العصر‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬آخر‭…..‬

بعد‭ ‬هذه‭ ‬التوطئة‭ ‬التي‭ ‬عرضنا‭ ‬فيه‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الحقائق‭ ‬التاريخية،‭ ‬يجدر‭ ‬الان‭ ‬عرض‭ ‬أهم‭ ‬المنطلقات‭ ‬الفكرية‭ ‬للإمام‭ ‬الشاطبي‭ ‬التي‭ ‬ستساعد‭ ‬في‭ ‬القول‭ ‬أوعلى‭ ‬الأقل‭ ‬تفتح‭ ‬باب‭ ‬مناقشة‭ ‬إمكانية‭ ‬إدخال‭ ‬تعديل‭ ‬جزئي‭ ‬على‭ ‬نظام‭ ‬الارث‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬درء‭ ‬المفسدة‭ ‬عن‭ ‬الحالة‭ ‬الواقعية‭ ‬التي‭ ‬ذكرتها‭ ‬وحالات‭ ‬أخرى‭ ‬مشابهة‭ ‬كثيرة‭ ‬الحصول‭ ‬في‭ ‬الواقع،‭ ‬وكذلك‭ ‬إقرار‭ ‬مساواة‭ ‬تامة‭ ‬ونهائية‭ ‬بين‭ ‬الرجل‭ ‬والمرأة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الشأن‭ ‬ما‭ ‬دام‭ ‬أن‭ ‬عنصر‭ ‬الاكتساب‭ ‬أو القوامة‭ ‬الذي‭ ‬يقوم‭ ‬عليه‭ ‬التمييز‭ ‬بين‭ ‬الذكر‭ ‬والأنثى‭ ‬في‭ ‬تقسيم‭ ‬الارث‭ ‬بل‭ ‬ويعد‭ ‬علته‭ ‬الشرعية،‭ ‬أصبح‭ ‬في‭ ‬وقتنا‭ ‬الحاضر‭ ‬مجالا‭ ‬مشتركا‭ ‬بين‭ ‬الجنسين،‭ ‬بل‭ ‬ان‭ ‬الواقع‭ ‬ومصلحة‭ ‬الأسرة‭ ‬واستقرارها‭ ‬المادي‭ ‬ورفاهها‭ ‬أضحوا‭ ‬يفرضون‭ ‬ذلك،‭  ‬فأغلب‭ ‬الأحكام‭ ‬التكليفية‭ ‬الاخرى‭ ‬التي‭ ‬أمرت‭ ‬بها‭ ‬الشريعة‭ ‬كلا‭ ‬الجنسين‭ ‬البشريين‭ ‬جاءت‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬سواء‭ ‬دون‭ ‬أدنى‭ ‬تمييز،‭ ‬اللهم‭ ‬ذلك‭ ‬المتعلق‭ ‬بالطبيعة‭ ‬الجسدية‭ ‬التي‭ ‬تميز‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬منهما‭ ‬والتي‭ ‬تجعل‭ ‬بعض‭ ‬الاحكام‭ ‬تسري‭ ‬على‭ ‬الواحد‭ ‬منهما‭ ‬دون‭ ‬الاخر‭ ‬(الولادة،‭ ‬الحيض‭ ‬بالنسبة‭ ‬للمرأة)‭.‬

واعتمادنا‭ ‬على‭ ‬الإمام‭ ‬الشاطبي‭ ‬يبرره‭ ‬عاملان‭:‬

أولهما‭ ‬كونه‭ ‬محسوب‭ ‬على‭ ‬المذهب‭ ‬السني‭ ‬المالكي‭ ‬الذي‭ ‬يعتنقه‭ ‬المغرب‭ ‬كما‭ ‬انه‭ ‬تتلمذ‭ ‬على‭ ‬علماء‭ ‬من‭ ‬المغرب‭ ‬والأندلس‭ ‬جميعهم‭ ‬ينتمون‭ ‬الى‭ ‬مذهب‭ ‬إمام‭ ‬دار‭ ‬الهجرة‭.‬

ثانيهما‭ ‬قوله‭ ‬ببناء‭ ‬الأحكام‭ ‬الشرعية‭ ‬التكليفية‭ ‬على‭ ‬مقاصد‭ ‬الشريعة‭ ‬الاسلامية‭ ‬العامة‭ ‬التي‭ ‬تتجلى‭ ‬عامة‭ ‬في‭ ‬اعتبارها‭‬‮ «‬لمصالح‭ ‬العباد‭ ‬في‭ ‬العاجل‭ ‬والآجل‭ ‬معا‮»‬‭‬ ودرءها‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭ ‬كل‭ ‬المفاسد‭ ‬المُحتملة‭ ‬عنهم،‭ ‬أو بحسب‭ ‬تعبير‭ ‬قاضي‭ ‬قضاة‭ ‬قرطبة‭ ‬وفيلسوفها‭ ‬الإمام‭ ‬أبو الوليد‭ ‬ابن‭ ‬رشد‭‬‮ «‬مقصود‭ ‬الشرع‭ ‬هو تعليم‭ ‬العمل‭ ‬الحق،‭ ‬والعمل‭ ‬الحق‭ ‬هو امتثال‭ ‬الأفعال‭ ‬التي‭ ‬تفيد‭ ‬السعادة‭ ‬وتجنب‭ ‬الأفعال‭ ‬التي‭ ‬تفيد‭ ‬الشقاء‮»‬‭‬ مع‭ ‬رفعها‭ ‬أيضا‭ ‬عن‭ ‬سائر‭ ‬الخاضعين‭ ‬لأوامرها‭ ‬كل‭ ‬حرج‭ ‬أو مشقة‭ ‬بمناسبة‭ ‬تنفيذهم‭ ‬لها‭.‬

أما‭ ‬ثالثهما‭ ‬فقوله‭ ‬بضرورة‭ ‬مراعاتها‭ ‬لتبدل‭ ‬عوائدهم‭ ‬وظروفهم‭ ‬العامة‭ ‬وإلا‭ ‬صارت‭ ‬تكليفا‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬يُطاق،‭ ‬ففهم‭ ‬الواقع‭ ‬والفقه‭ ‬فيه‭ ‬يعد‭ ‬من‭ ‬شروط‭ ‬الإفتاء‭ ‬وإصدار‭ ‬الأحكام‭ ‬الشرعية،‭ ‬وكما‭ ‬يقول‭ ‬الامام‭ ‬القرافي ‭‬‮«‬إجراء‭ ‬الأحكام‭ ‬التي‭ ‬مدركها‭ ‬العوائد‭ ‬مع‭ ‬تغير‭ ‬تلك‭ ‬العوائد‭ ‬هو خلاف‭ ‬الإجماع‭ ‬وجهالة‭ ‬في‭ ‬الدين‭ ‬بل‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬الشريعة‭ ‬يتبع‭ ‬لعوائد،‭ ‬يتغير‭ ‬الحكم‭ ‬فيه‭ ‬عند‭ ‬تغير‭ ‬العادة‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬تقتضيه‭ ‬العادة‭ ‬المتجددة‮»‬،‭ ‬فلو‭ ‬لم‭ ‬تعتبر‭ ‬العوائد‭ ‬في‭ ‬الشريعة‭ ‬لأدى‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬تكليف‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يُطاق‭.‬‮ ‬

وعليه‭ ‬وجب‭ ‬أولا‭ ‬تحديد‭ ‬المنطلقات‭ ‬الفكرية‭ ‬التي‭ ‬اعتمدها‭ ‬الإمام‭ ‬الشاطبي‭ ‬في‭ ‬قوله‭ ‬بوجوب‭ ‬مراعاة‭ ‬مقاصد‭ ‬الشريعة‭ ‬الاسلامية‭ ‬القائمة‭ ‬في‭ ‬عمومها‭ ‬على‭ ‬جلب‭ ‬المصالح‭ ‬للمكلفين‭ ‬ودرء‭ ‬المفاسد‭ ‬عنهم‭ ‬أثناء‭ ‬كل‭ ‬عملية‭ ‬تشريع‭ ‬أو اجتهاد‭ ‬أو تطبيق‭ ‬لحكم‭ ‬شرعي،‭ ‬وهي‭ ‬مقاصد‭ ‬تجد‭ ‬أساسا‭ ‬سندها‭ ‬العام‭ ‬في‭  ‬أصول‭ ‬أو كليات‭ ‬الشريعة،‭ ‬اما‭ ‬جاءت‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬نصوص‭ ‬نقلية،‭ ‬وردت‭ ‬بصيغة‭ ‬عامة‭ ‬ومطلقة،‭  ‬كانت‭ ‬هي‭ ‬الموضوعة‭ ‬أولا‭ ‬بمكة،‭ ‬أو في‭ ‬شكل‭ ‬قوانين‭ ‬كلية‭ ‬أي‭ ‬معاني‭ ‬مستقرأة‭ ‬من‭ ‬الأولى‭ ‬ومن‭ ‬باقي‭ ‬أحكام‭ ‬وأخبار‭ ‬الشريعة‭. ‬فالأولى،‭ ‬والتي‭ ‬أطلق‭ ‬عليها‭ ‬كذلك‭ ‬عبارة ‭‬‮«‬الأصول‭ ‬الأولى‮»‬ ‬والتي‭ ‬لا‭ ‬أصول‭ ‬فوقها‭ ‬باعتبارها‭ ‬المصدر‭ ‬النهائي‭ ‬والمطلق،‭ ‬هي‭ ‬مكارم‭ ‬الأخلاق‭ ‬كالأمر‭ ‬بالعدل‭ ‬والإحسان‭ ‬والوفاء‭ ‬بالعهد‭ ‬وعمل‭ ‬الصالحات‭ ‬والأمر‭ ‬بالمعروف‭ ‬والنهي‭ ‬عن‭ ‬المنكر‭ ‬ومنع‭ ‬الظلم‭ ‬وأكل‭ ‬أموال‭ ‬الناس‭ ‬بالباطل‭ ‬واكل‭ ‬أموال‭ ‬اليتامى‭ ‬والإفساد‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬وأخذ‭ ‬العفو وهي‭ ‬كما‭ ‬يلاحظ‭ ‬وردت‭ ‬في‭ ‬النص‭ ‬القرآني‭ ‬أثناء‭ ‬فترة‭ ‬نزوله‭ ‬بمكة،‭ ‬وجاءت‭  ‬في‭ ‬شكل‭ ‬عبارات‭ ‬مطلقة‭ ‬وعامة‭ ‬وغير‭ ‬مقدرة‭ ‬ولا‭ ‬محددة‭. ‬أما‭ ‬الثانية‭ ‬فيقصد‭ ‬بها‭ ‬تلك‭ ‬القواعد‭ ‬أو المعاني‭ ‬أوالقوانين‭ ‬الكلية‭ ‬التي‭ ‬ثبتت‭ ‬بصورة‭ ‬قطعية‭ ‬بالاستقراء‭ ‬العام‭ ‬لجملة‭ ‬نصوص‭ ‬الشريعة‭ ‬مثل‭ ‬رفع‭ ‬الضرر‭ ‬ورفع‭ ‬الحرج‭ ‬وسد‭ ‬الذرائع‭ ‬والاستحسان‭ ‬والنظر‭ ‬الى‭ ‬مآلات‭ ‬الأحكام‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الكليات‭ ‬الاستقرائية‭ ‬القطعية‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬ترد‭ ‬بشكل‭ ‬صريح‭ ‬بل‭ ‬تم‭ ‬استقراؤها‭ ‬والتأكد‭ ‬من‭ ‬قطعيتها‭ ‬لتكرار‭ ‬معانيها‭ ‬وتضافر‭ ‬الأحكام‭ ‬والأخبار‭ ‬الدالة‭ ‬عليها‭ ‬ولوبطريقة‭ ‬غير‭ ‬مباشرة،‭ ‬فهي،‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬قول‭ ‬المرحوم‭ ‬د‭ ‬فريد‭ ‬النصاري،‭ ‬أصول‭ ‬او قواعد‭ ‬تصلح‭ ‬للاعمال‭ ‬الاجتهادي‭ ‬والاستنباط‭ ‬لشموليتها‭ ‬وحاكميتها‭.‬

فهذه‭ ‬الكليات‭ ‬أو الأصول‭ ‬أو القواعد‭ ‬حسب‭ ‬الشاطبي،‭ ‬مبثوثة‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬أبواب‭ ‬الشريعة،‭ ‬ثبتت‭ ‬له‭ ‬اما‭ ‬بعد‭ ‬استقراء‭ ‬عام‭ ‬لأحكامها‭ ‬الكلية‭ ‬والجزئية‭ ‬الواردة‭ ‬في‭ ‬مصادرها الرئيسية‭ ‬(قران،‭ ‬سنة‭ ‬صحيحة،‭ ‬عمل‭ ‬الصحابة،‭ ‬إجماع‭ ،(… ‬أو أنها‭ ‬وردت‭ ‬بصيغة‭ ‬عامة‭ ‬مباشرة‭ ‬أطلق‭ ‬عليها‭ ‬تحديدا‭ ‬لفظ ‭‬‮«‬الأصول‭ ‬الأولى‮» ‬‭‬لأنها‭ ‬منصوصات‭ ‬نقلية،‭ ‬كانت‭ ‬هي‭ ‬الموضوعة‭ ‬اولا‭ ‬بمكة‭ ‬حسب‭ ‬ما‭ ‬أشير‭ ‬اليه‭ ‬أعلاه،‭ ‬فهذه‭  ‬الكليات،‭ ‬وبغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬المصطلح‭ ‬الذي‭ ‬أطلق‭ ‬عليها‭ ‬وكذا‭ ‬عن‭ ‬طبيعتها‭ ‬النقلية‭ ‬أو الاستقرائية‭ ‬أو مصدرها‭ ‬سواء‭ ‬كان‭ ‬قرآنا‭ ‬أو سنة‭ ‬أو إجماع‭ ‬صحابة،‭ ‬فهي‭ ‬تظل‭ ‬دائما‭ ‬كليات‭ ‬أو مبادئ‭ ‬عامة ‭‬‮«‬لا‭ ‬تنافي‭ ‬قضايا‭ ‬العقول‮»‬‭‬ لأنها‭ ‬في‭ ‬مجملها‭ ‬تروم‭ ‬المحافظة‭ ‬على‭ ‬الضروريات‭ ‬البشرية‭ ‬الخمس‭ ‬(الدين،‭ ‬النفس،‭ ‬العقل،‭ ‬النسل،‭ ‬المال‭ .(‬وهذه‭ ‬الضروريات‭ ‬كانت‭ ‬دائما‭‬‮ «‬مراعاة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ملة‭ ‬وإن‭ ‬اختلفت‭ ‬أوجه‭ ‬حفظها‭ ‬بحسب‭ ‬كل‭ ‬ملة‮»‬‭‬ فهي‭‬‮ «‬أدلة‭ ‬باتفاق‭ ‬العقلاء‮»‬،‭‬‮ «‬بحيث‭ ‬تصدقها‭ ‬العقول‭ ‬الراجحة‭ ‬وتنقاد‭ ‬لها‭ ‬طائعة‭ ‬لا‭ ‬كارهة‮».‬‭‬

المنطلقات‭ ‬الفكرية‭ ‬للإمام‭ ‬الشاطبي‭ ‬للقول‭ ‬بقيام‭ ‬الشريعة‭ ‬على‭ ‬مقاصد‭ ‬وأحكام‭ ‬كلية‭ ‬عامة‭ :‬

حتى‭ ‬يبرر‭ ‬الإمام‭ ‬الشاطبي‭ ‬قوله‭ ‬بأن‭ ‬غاية‭ ‬الشريعة‭ ‬الاسلامية‭ ‬عامة‭ ‬هو جلب‭ ‬المصالح‭ ‬للعباد‭ ‬ودرءها‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭ ‬المفاسد‭ ‬عنهم،‭ ‬وأنه‭ ‬بالتالي‭ ‬يجب‭ ‬تطبيق‭ ‬الأحكام‭ ‬والتشريع‭ ‬لها‭ ‬وفق‭ ‬هذه‭ ‬الرؤية‭ ‬الكلية،‭ ‬فلقد‭ ‬تطلب‭ ‬منه‭ ‬ذلك‭ ‬عرض‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الأفكار‭ ‬والمبادئ‭ ‬إما‭ ‬ضمنها‭ ‬في‭ ‬مقدماته‭ ‬التي‭ ‬استهل‭ ‬بها‭ ‬كتابه‭ ‬الموافقات‭ ‬أو جاءت‭ ‬مبثوثة‭ ‬فيه‭ ‬هنا‭ ‬وهناك‭ ‬بشكل‭ ‬غير‭ ‬منتظم،‭ ‬فهي‭ ‬الواقع‭ ‬شكلت‭ ‬تمهيدا‭ ‬ابستمولوجيا‭ ‬لنظريته‭ ‬التشريعية‭ ‬الجديدة‭ ‬والتي‭ ‬كان‭ ‬يهدف‭ ‬من‭ ‬ورائها‭ ‬إقناع‭ ‬جمهرة‭ ‬فقهاء‭ ‬عصره‭ ‬الغارقون‭ ‬في‭ ‬اختلافاتهم‭ ‬اللفظية‭ ‬واقيستهم‭ ‬العقيمة‭ ‬ومصنفاتهم‭ ‬الفقهية‭ ‬المعقدة،‭  ‬بكون‭ ‬الشريعة‭ ‬الاسلامية‭ ‬سمحة‭ ‬الأحكام،‭ ‬بسيطة‭ ‬الفهم،‭ ‬لا‭ ‬تتطلب‭ ‬عملية‭ ‬الاجتهاد‭ ‬وفقها‭ ‬وفي‭ ‬إطارها‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬التعقيدات‭ ‬المسطرية‭ ‬التي‭ ‬راكمها‭ ‬الفقهاء‭ ‬والأصوليون‭ ‬منذ‭ ‬القرن‭ ‬الرابع‭ ‬الهجري،‭ ‬فهي‭ ‬سهلة‭ ‬المدرك‭ ‬لائقة‭ ‬بمستوى‭ ‬ثقافة‭ ‬أي‭ ‬جمهور‭ ‬عادي،بحيث‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬شأن‭ ‬بساطتها‭ ‬وسهولة‭ ‬استيعابها‭ ‬أو‮ «‬أميتها‮»‬،‭ ‬إذ‭ ‬أنها‭ ‬نزلت‭ ‬على‭ ‬أميين‭ ‬بسطاء‭ ‬في‭ ‬الفهم‭ ‬والإدراك،‭ ‬أن‭ ‬تجعل‭ ‬كل‭ ‬مواطن‭ ‬مسلم ‭‬‮«‬فقيه‭ ‬نفسه‮».‬‭‬‮ ‬

1 ‭ -‬من‭ ‬طبيعة‭ ‬الشريعة‭ ‬الاسلامية‭ ‬أنها‭ ‬لا‭ ‬تنافي‭ ‬العقل‭ ‬البشري‭ ‬لأن‭ ‬مقصدها‭ ‬الأساس‭ ‬جلب‭ ‬مصالح‭ ‬العباد‭ ‬ودرء‭ ‬المفاسد‭ ‬عنهم‭ : ‬

ومرد‭ ‬ذلك‭ ‬الى‭ ‬أنها‭ ‬تروم‭ ‬في‭ ‬مجملها‭ ‬المحافظة‭ ‬على‭ ‬المقاصد‭ ‬التي‭ ‬بها‭ ‬يكون‭ ‬صلاح‭ ‬الدارين،‭ ‬أي‭ ‬الدنيا‭ ‬والآخرة،‭ ‬وهي‭ ‬حفظ‭ ‬الضروريات‭ ‬البشرية‭ ‬الخمس‭ ‬والتي‭ ‬هي‭ ‬الدين‭ ‬والنفس‭ ‬والعقل‭ ‬والنسل‭ ‬والمال،‭ ‬ثم‭ ‬الحاجيات‭ ‬والتحسينات،‭ ‬وما‭ ‬هو‭ ‬مكمل‭ ‬لها‭ ‬ومتمم‭ ‬لأطرافها‭ ‬فهي‭ ‬أصول‭ ‬الشريعة‭ ‬وهي‭‬‮ «‬أدلة‭ ‬باتفاق‭ ‬العقلاء‮» ‬‭‬لأنها‭ ‬نصبت‭ ‬في‭ ‬الشريعة‭ ‬لتتلقاها‭ ‬عقول‭ ‬المكلفين‭ ‬إذ‭ ‬مورد‭ ‬التكليف‭ ‬هو‭ ‬العقل‭‬‮ «‬فَلَو كانت‭ ‬مقاصد‭ ‬أو قوانين‭ ‬هذه‭ ‬الشريعة‭ ‬لا‭ ‬تنسجم‭ ‬مع‭ ‬العقل‭ ‬لكان‭ ‬الكفار‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬ردها‮» ‬‭..‬فهم‭‬‮ «‬عرفوا‭ ‬(اقتنعوا)‭ ‬بجريانها‭ ‬على‭ ‬مقتضى‭ ‬العقول‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬عملية‭ ‬استقراءها‭ ‬جملة‮ «‬دلت‭ ‬على‭ ‬جريانها‭ ‬على‭ ‬مقتضى‭ ‬العقول‭ ‬بحيث‭ ‬تصدقها‭ ‬العقول‭ ‬الراجحة‭ ‬وتنقاد‭ ‬لها‭ ‬طائعة‭ ‬غير‭ ‬كارهة‮»‬‭‬. فكما‭ ‬كان‭ ‬يقول‭ ‬الإمام‭ ‬العز‭ ‬بن‭ ‬عبد‭ ‬السلام‭ ‬قبل‭ ‬ذلك‭‬‮ «‬معظم‭ ‬مصالح‭ ‬الدنيا‭ ‬ومفاسدها‭ ‬معروف‭ ‬بالعقل‭…‬وأن‭ ‬تقديم‭ ‬الاصلح‭ ‬فالأصلح‭ ‬ودرء‭ ‬الأفسد‭ ‬فالأفسد‭ ‬مركوز‭ ‬في‭ ‬طبائع‭ ‬العباد‭….‬ومصالح‭ ‬الدنيا‭ ‬وأسبابها‭ ‬ومفاسدها‭ ‬معروفة‭ ‬بالضرورات‭ ‬والتجارب‭ ‬والعادات‭ ‬والظنون‭ ‬المعتبرات‭…‬ومن‭ ‬أراد‭ ‬أن‭ ‬يعرف‭ ‬المتناسبات‭ ‬والمصالح‭ ‬والمفاسد،‭ ‬فليعرض‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬عقله‭ ‬بتقدير‭ ‬أن‭ ‬الشرع‭ ‬لم‭ ‬يرد‭ ‬به‭ ‬ثم‭ ‬يبني‭ ‬عليه‭ ‬الاحكام،‭ ‬فلا‭ ‬يكاد‭ ‬حكم‭ ‬يخرج‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬إلا‭ ‬ما‭ ‬تعبد‭ ‬الله‭ ‬به‭ ‬عباده‭…‬وبذلك‭ ‬تعرف‭ ‬حسن‭ ‬الأعمال‭ ‬وقبحها‭ ‬في‭ ‬ذاتها‭…‬‮»‬‭ ‬ومن‭ ‬تتبع‭ ‬مقاصد‭ ‬الشرع‭ ‬في‭ ‬جلب‭ ‬المصالح‭ ‬ودرء‭ ‬المفاسد،‭ ‬حصل‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬مجموع‭ ‬ذلك‭ ‬اعتقاد‭ ‬أوعرفان‭ ‬بأن‭ ‬هذه‭ ‬المصلحة‭ ‬لا‭ ‬يجوز‭ ‬إهمالها‭ ‬وأن‭ ‬هذه‭ ‬المفسدة‭ ‬لا‭ ‬يجوز‭ ‬قربانها‭ ‬وإن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬فيها‭ ‬إجماع‭ ‬ولا‭ ‬نص‭ ‬ولا‭ ‬قياس‭ ‬خاص‭.‬‮‬

وهكذا‭ ‬فالأمر‭ ‬بالمصالح‭ ‬والنهي‭ ‬عن‭ ‬المفاسد‭ ‬مطرد‭ ‬مطلقا‭ ‬في‭ ‬في‭ ‬كليات‭ ‬الشريعة‭ ‬وجزئياتها‭ ‬وهوما‭ ‬جعل‭ ‬لها‭ ‬خصائص‭ ‬تمتاز‭ ‬بها‭ ‬وهي‭ ‬العموم‭ ‬والاطراد‭ ‬والثبوت‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬زوال،‭ ‬غير‭ ‬قابلة‭ ‬أحكامها‭ ‬للتبدل،‭ ‬تسري‭ ‬على‭ ‬عموم‭ ‬المكلفين،‭ ‬لا‭ ‬بحسب‭ ‬خصوص‭ ‬بعضهم‭ ‬ولا‭ ‬بحسب‭ ‬زمان‭ ‬دون‭ ‬زمان‭ ‬ولا‭ ‬حال‭ ‬دون‭ ‬حال‭….‬؟؟

‮ – ‬2‭‬الشريعة‭ ‬الاسلامية‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬الا‭ ‬استمرار‭ ‬للملل‭ ‬والديانات‭ ‬القديمة‭ ‬وشرائع‭ ‬وقوانين‭ ‬الأمم‭ ‬السابقة‭ :‬‮ ‬

يبرر‭ ‬الامام‭ ‬الشاطبي‭ ‬قوله‭ ‬هذا‭ ‬بكون‭ ‬شريعتنا‭ ‬الاسلامية‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬مجملها‭ ‬اقتضاء‭ ‬وسعي‭ ‬للمصالح‭ ‬الدنيوية‭ ‬وأن‭ ‬ما‭ ‬تقدم‭ ‬من‭ ‬الامم‭ ‬السابقة‭‬‮ «‬سواء‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬شريعة‭ ‬له‭ ‬أوكانت‭ ‬له‭ ‬واندثرت‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬(أي‭ ‬اقتضاء‭ ‬المصالح‭ ‬الدنيوية) ‬تتم‭ ‬بالنظر‭ ‬العقلي‭….‬وهي‭ ‬ما‭ ‬يسمونه‭ ‬بالسياسة‭ ‬المدنية،‭ ‬فهذا‭ ‬أمر‭ ‬قد‭ ‬توارد‭ ‬النقل‭ ‬والعقل‭ ‬على‭ ‬صحته‭ ‬في‭ ‬الجملة‮»‬،‭ ‬وعليه‭ ‬ف‭‬‮«‬كليات‭ ‬الشريعة‭ ‬معتبرة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ملة‮»‬‭…‬ لأن‭ ‬العقلاء‭ ‬في‭ ‬الفترات‭ ‬(التاريخية‭ ‬السابقة)‭ ‬قد‭ ‬كانوا‭ ‬يحافظون‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬الأشياء‭ ‬بمقتضى‭ ‬أنظار‭ ‬عقولهم‭ ‬فإن‭ ‬كان ‭‬‮«‬القرآن‭ ‬كله‭ ‬حكمة‮»‬،‭‬‮ «‬فقد‭ ‬كانوا‭ ‬عارفين‭ ‬بالحكمة‮»‬،‭ ‬وسبب‭ ‬استشهاد‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬بالآيات‭ ‬التي‭ ‬تدل‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الإسلام‭ ‬لم‭ ‬يخرج‭ ‬عن‭ ‬الخط‭ ‬الأخلاقي‭ ‬التشريعي‭ ‬العام‭ ‬للأمم‭ ‬والملل‭ ‬السابقة‭ ‬المقتضي‭ ‬في‭ ‬كليته‭ ‬جلب‭ ‬مصالح‭ ‬العباد‭ ‬ودرء‭ ‬المفاسد‭ ‬عنهم،‭‬‮ «‬حتى‭ ‬يعلموا‭ ‬(أي‭ ‬العرب‭ ‬الذين‭ ‬نزل‭ ‬فيهم)‭ ‬أنهم‭ ‬لم‭ ‬يستفردوا‭ ‬بهذا‭ ‬الامر‭ ‬دون‭ ‬الخلق‭ ‬الماضين‭ ‬بل‭ ‬هم‭ ‬مشتركون‭ ‬في‭ ‬مقتضاه‮».‬‭ ‬

‭ – ‬3 ‭‬الشريعة‭ ‬الاسلامية‭ ‬فطرية‭ ‬منسجمة‭ ‬مع‭ ‬الضمير‭ ‬الإنساني‭ :‬‮ ‬

ومرد‭ ‬ذلك‭ ‬كون‭ ‬أن‭‬‮ «‬الله‭ ‬وضعها‭ ‬سمحة‭ ‬سهلة‭ ‬حفظ‭ ‬فيها‭ ‬على‭ ‬الخلق‭ ‬قلوبهم‭ ‬وحببها‭ ‬إليهم‮»‬ ‬ فأحكامها‭ ‬العامة‭ ‬التي‭ ‬تعد‭ ‬وحدها‭ ‬المرجع‭ ‬العام‭ ‬في‭ ‬أية‭ ‬عملية‭ ‬تشريع‭ ‬او اجتهاد‭ ‬والتي‭ ‬غالبها‭ ‬أحكام‭ ‬كلية‭ ‬معنوية‭ ‬مثل‭ ‬الأمر‭ ‬بالعدل‭ ‬والإحسان‭ ‬والوفاء‭ ‬بالعهد‭ ‬والنهي‭ ‬عن‭ ‬الفساد‭ ‬في‭ ‬الأرض‭….‬ كلها‭ ‬أحكام‭ ‬ومبادئ‭ ‬يميل‭ ‬إليها‭ ‬بالفطرة‭ ‬كل‭ ‬ضمير‭ ‬بشري‭ ‬ويتوخى‭ ‬تنزيلها‭ ‬على‭ ‬الواقع‭ ‬الذي‭ ‬يعيشه‭ ‬بغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬زمانه‭ ‬او مكانه،‭ ‬ذلك‭ ‬وكما‭ ‬لاحظ‭ ‬ايراسموس،‭ ‬أحد‭ ‬فلاسفة‭ ‬التنوير، ‭‬‮«‬هناك‭ ‬عقل‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬إنسان،‭ ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬عقل‭ ‬يوجد‭ ‬جهد‭ ‬يتجه‭ ‬نحو الخير‮»‬.

 4‭‬ – الشريعة‭ ‬الاسلامية‭ ‬نزلت‭ ‬على‭ ‬معهود‭ ‬العرب‭ ‬لذلك‭ ‬وجب‭ ‬فهم‭ ‬معاني‭ ‬خطابها‭ ‬وعلل‭ ‬أحكامها‭ ‬ومقاصدها‭ ‬في‭ ‬إقامة‭ ‬العدل‭ ‬وجلب‭ ‬المصالح‭ ‬ودرء‭ ‬المفاسد‭ ‬بالاستناد‭ ‬الى‭ ‬أسباب‭ ‬نزوله‭ ‬بينهم‭ :‬

هذا‭ ‬الامر،‭ ‬حسب‭ ‬الامام‭ ‬الشاطبي،‭ ‬يقتضي‭ ‬أولا‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬مجتهد‭ ‬أو مشروع‭ ‬أو مفتي‭ ‬ضرورة‭ ‬الإلمام‭ ‬باللغة‭ ‬العربية‭ ‬ولسان‭ ‬العرب‭ ‬إبان‭ ‬نزول‭ ‬الرسالة‭ ‬المحمدية،‭‬‮ «‬إذ‭ ‬لما‭ ‬كان‭ ‬المرجع‭ ‬في‭ ‬معرفة‭ ‬شرعنا‭ ‬هو القرآن‭ ‬والأخبار‭ ‬وهما‭ ‬واردان‭ ‬بلغة‭ ‬العرب‭ ‬ونحوهم‭ ‬وتصريفهم،‭ ‬كان‭ ‬العلم‭ ‬بشرعنا‭ ‬موقوفا‭ ‬على‭ ‬العلم‭ ‬بهذه‭ ‬الأمور‭ …‬‮»‬‭‬وذلك‭ ‬حتى‭ ‬يمكن ‭‬‮«‬معرفة‭ ‬مقاصد‭ ‬كلامهم‭ ‬وعلم‭ ‬المعاني‭ ‬والبيان‭ ‬الذي‭ ‬يعرف‭ ‬به‭ ‬إعجاز‭ ‬نظم‭ ‬القرآن‮»‬‭‬ ولقد‭ ‬سبق‭ ‬للخليفة‭ ‬عمر‭ ‬بن‭ ‬الخطاب‭ ‬أن‭ ‬أوصى‭ ‬قائلا : ‭‬‮«‬أيها‭ ‬الناس،‭ ‬تمسكوا‭ ‬بديوان‭ ‬شعركم‭ ‬في‭ ‬جاهليتكم‭ ‬فإن‭ ‬فيه‭ ‬تفسير‭ ‬كتابكم‮».‬‭‬

كما‭ ‬يقتضي‭ ‬الأمر‭ ‬ثانيا‭ ‬الاطلاع‭‬‮ «‬ومعرفة‭ ‬عادات‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬أقوالها‭ ‬وأفعالها‭ ‬ومجاري‭ ‬أحوالها‭ ‬حالة‭ ‬التنزيل‮» ‬‭‬ذلك‭ ‬أن ‭‬‮«‬الجهل‭ ‬بأسباب‭ ‬التنزيل‭ ‬موقع‭ ‬في‭ ‬التيه‭ ‬والاشكالات‮»‬‭‬ وعليه‭ ‬فمعرفة‭ ‬معاني‭ ‬النص‭ ‬القرآني‭ ‬وبيانه،‭‬‮ «‬إنما‭ ‬مداره‭ ‬على‭ ‬مقتضيات‭ ‬الأحوال‭ ‬حال‭ ‬الخطاب،‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬نفس‭ ‬الخطاب،‭ ‬أوالمخاطِب‭ ‬أوالمخاطَب،‭ ‬أو الجميع‮»‬‭‬ فشأن‭ ‬أسباب‭ ‬النزول‭ ‬هو‭‬‮«‬التعريف‭ ‬بمعاني‭ ‬المنزٓل‮» ‬‭‬و‭ ‬‮«‬من‭ ‬تتبع‭ ‬مجاري‭ ‬الحكايات‭ ‬في‭ ‬القرآن‭ ‬عرف‭ ‬مداخلها‭ ‬وما‭ ‬هو منها‭ ‬حق‭ ‬مما‭ ‬هو باطل‮»‬‭‬‮. ‬

لذلك‭ ‬فإنه‭ ‬بفضل‭ ‬الإلمام‭ ‬بهاتين‭ ‬المعرفتين،‭ ‬أي‭ ‬لسان‭ ‬العرب‭ ‬وحالهم‭ ‬وعوائدهم‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬والثقافية‭ ‬فترة‭ ‬التنزيل،‭ ‬اعتبر‭ ‬بيان‭ ‬واجتهادات‭ ‬الصحابة‭ ‬حجة،‭ ‬فهم‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬كانوا‭ ‬أعرف‭ ‬باللسان‭ ‬العربي‭ ‬لأنهم‭‬‮ «‬عرب‭ ‬فصحاء‮»‬‭‬ فكانوا‭ ‬أعرف‭ ‬في‭ ‬فهم‭ ‬الكتاب‭ ‬والسنة‭ ‬من‭ ‬غيرهم،‭ ‬ومن‭ ‬جهة‭ ‬أخرى،‭ ‬مباشرتهم‭ ‬للوقائع‭ ‬والنوازل‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬سبب‭ ‬تنزيل‭ ‬الوحي‭ ‬بالكتاب‭ ‬والسنة،‭ ‬جعلتهم‭ ‬‮«‬أقعد‭ ‬في‭ ‬فهم‭ ‬القرائن‭ ‬الحالية‭ ‬وأعرف‭ ‬بأسباب‭ ‬التنزيل،‭ ‬يدركون‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يدركه‭ ‬غيرهم‭ ‬بسبب‭ ‬ذلك،‭ ‬والشاهد‭ ‬يرى‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يرى‭ ‬الغائب‮»‬،‭‬‮ «‬فأصحاب‭ ‬النبي‭ ‬كانوا‭ ‬أعلم‭ ‬بكتاب‭ ‬الله‭ ‬أين‭ ‬نزل‭ ‬وفيما‭ ‬نزل‮». ‬‭‬وعلى‭ ‬هذا‭ ‬الأساس،‭ ‬جاءت‭ ‬الاجتهادات‭ ‬المشهورة‭ ‬الصادرة‭ ‬مثلا‭ ‬عن‭ ‬الخليفة‭ ‬عمر‭ ‬ض،‭ ‬صائبة‭ ‬وعادلة‭ ‬ومحققة‭ ‬في‭ ‬مجملها‭ ‬لمقاصد‭ ‬الشريعة‭ ‬الاسلامية‭ ‬العامة‭ ‬بفضل‭ ‬تمكنه‭ ‬من‭ ‬هاتين‭ ‬المعرفتين‭ ‬وهوما‭ ‬سمح‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأحيان‭ ‬بتجاوز‭ ‬النص‭ ‬القرآني‭ ‬كإيقاف‭ ‬العمل‭ ‬بعقوبة‭ ‬قطع‭ ‬اليد‭ ‬في‭ ‬جريمة‭ ‬السرقة،‭ ‬وايقاف‭ ‬العمل‭ ‬نهائيا‭ ‬بحكم‭ ‬سهم‭ ‬المؤلفة‭ ‬قلوبهم‭ ‬وكذا‭ ‬تجاوز‭ ‬قسمة‭ ‬الارث‭ ‬المفرزة‭ ‬بشكل‭ ‬صريح‭ ‬بالخطاب‭ ‬الإلهي‭ ‬والتي‭ ‬سنأتي‭ ‬على‭ ‬بيانها‭ ‬لاحقا‭.‬‮ ‬

 5 ‭ -‬تمييزه‭ ‬الدقيق‭ ‬والغير‭ ‬المسبوق‭ ‬بين‭ ‬كليات‭ ‬الشريعة‭ ‬وجزئياتها‭ ‬أثناء‭ ‬كل‭ ‬عملية‭ ‬تطبيق‭ ‬لحكم‭ ‬شرعي‭ ‬أوتشريع‭ ‬أو اجتهاد‭ :‬‮ ‬

في‭ ‬الواقع،‭ ‬يعد‭ ‬هذا‭ ‬التمييز‭ ‬خلاصة‭ ‬جميع‭ ‬المنطلقات‭ ‬التي‭ ‬ذكرناها‭ ‬آنفا‭.‬ فالشاطبي،‭ ‬كما‭ ‬لاحظ‭ ‬عن‭ ‬حق‭ ‬المرحوم‭ ‬د.‭ ‬فريد‭ ‬النصاري‭‬‮ «‬أقام‭ ‬مشروعه‭ ‬الأصولي‭ ‬على‭ ‬مفهوم‭ ‬الكليات‭ ‬بالقصد‭ ‬الأول‮»‬،‭ ‬وهوما‭ ‬اقتضى‭ ‬منه‭ ‬كذلك‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى‭ ‬تميييز‭ ‬هذا‭ ‬المفهوم‭ ‬عن‭ ‬مفهوم‭ ‬الجزئيات‭ ‬ووضع‭ ‬حد‭ ‬بينهما،‭ ‬رؤية‭ ‬وتطبيقا‭. ‬في‭ ‬اعتقادي‭ ‬المتواضع‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬التمييز‭ ‬الدقيق‭ ‬لم‭ ‬يُسبق‭ ‬إليه‭ ‬الإمام‭ ‬الشاطبي‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الفكر‭ ‬القانوني‭ ‬أو التشريعي‭ ‬برمته‭. ‬ذلك‭ ‬أنه‭ ‬يمكن‭ ‬لنا‭ ‬فقط‭ ‬أن‭ ‬نجد‭ ‬له‭ ‬نظيرا‭ ‬يقترب‭ ‬من‭ ‬فكرته‭ ‬العامة‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬التيار‭ ‬الفكري‭ ‬القانوني‭ ‬الذي‭ ‬صاحب‭ ‬الثورة‭ ‬البروتستانتية‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬السادس‭ ‬عشر‭ ‬والذي‭ ‬رام‭ ‬خلالها‭ ‬اعادة‭ ‬تشكيل‭ ‬الفكر‭ ‬القانوني‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬المسيحي‭ ‬على‭ ‬أسس‭ ‬جديدة‭ ‬تتجاوز‭ ‬شروحات‭ ‬وخلافات‭ ‬القوانين‭ ‬الكنسية‭ ‬المعمول‭ ‬بها،‭ ‬اذ‭ ‬رام‭ ‬هذا‭ ‬التيار‭ ‬وضع‭ ‬أسس‭ ‬جديدة‭ ‬للتشريع‭ ‬تنطلق‭ ‬من‭ ‬مجموعة‭ ‬مبادئ‭ ‬أخلاقية‭ ‬كلية‭ ‬تنظم‭ ‬علاقة‭ ‬الإنسان‭ ‬بأخيه‭ ‬الإنسان‭ ‬استنادا‭ ‬للوصايا‭ ‬العشر‭ ‬الدينية‭ ‬التي‭ ‬انطلاقا‭ ‬منها‭ ‬يمكن‭ ‬استنباط‭ ‬واشتقاق‭ ‬ووضع‭  ‬باقي‭ ‬الأحكام‭ ‬والقوانين‭ ‬التي‭ ‬تنظم‭ ‬المجتمع‭.‬

صحيح‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬الباحثين‭ ‬اعتبروا‭ ‬عن‭ ‬حق‭ ‬أن‭ ‬رسالة‭ ‬الامام‭ ‬الشافعي‭ ‬في‭ ‬أصول‭ ‬الفقه‭ ‬والتشريع‭ ‬تعد «‬أول‭ ‬محاولة‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬لإنشاء‭ ‬علم‭ ‬للقانون‮»‬‭‬ وذلك‭ ‬عندما‭ ‬وضع‭ ‬مسطرة‭ ‬خاصة‭ ‬يجب‭ ‬سلوكها‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬عملية‭ ‬تطبيق‭ ‬أو اجتهاد‭ ‬أو تشريع‭ ‬انطلاقا‭ ‬من‭ ‬القرآن‭ ‬والسنة‭ ‬وبالقياس‭ ‬عليهما،‭ ‬ركز‭ ‬هو كذلك‭ ‬خلالها‭ ‬على‭ ‬ضرورة‭ ‬التبحر‭ ‬في‭ ‬لسان‭ ‬العرب،‭ ‬لكن‭ ‬الذي‭ ‬حدث‭ ‬هو أن‭ ‬الأصوليون‭ ‬بعد‭ ‬الشافعي‭ ‬بالغوا‭ ‬في‭ ‬التركيز‭ ‬على‭ ‬دراسة‭ ‬والتوسع‭ ‬في‭ ‬ألفاظ‭ ‬الأوامر‭ ‬والأحكام‭ ‬الشرعية‭ ‬وأهملوا‭ ‬معانيها‭ ‬ومقصدها‭ ‬والحكمة‭ ‬من‭ ‬تشريعها‭. ‬لنلاحظ‭ ‬مثلا‭ ‬كيف‭ ‬اختلف‭ ‬الأصوليون‭ ‬كثيرا‭ ‬بعد‭ ‬الشافعي‭ ‬حول‭ ‬الدلالة‭ ‬اللغوية‭ ‬لصيغة‭ ‬الأمر‭ ‬الواردة‭ ‬في‭ ‬الخطاب‭ ‬القرآني،‭ ‬فمنهم‭ ‬من‭ ‬اعتبرها‭ ‬للندب‭ ‬فقط‭ ‬ومنهم‭ ‬من‭ ‬اعتبرها‭ ‬للوجوب‭ ‬ومنهم‭ ‬من‭ ‬اعتبرها‭ ‬تفيد‭ ‬الاباحة‭. ‬فهذا‭ ‬الاختلاف‭ ‬الأصولي‭ ‬اللغوي‭ ‬مثلا‭ ‬كانت‭ ‬له‭ ‬عواقب‭ ‬وخيمة‭ ‬على‭ ‬الفقه‭ ‬الإسلامي‭ ‬وساهم‭ ‬بشكل‭ ‬أساسي‭ ‬في‭ ‬بعث‭ ‬الجمود‭ ‬داخله‭ ‬وتحجيم‭ ‬دوره‭ ‬في‭ ‬إرساء‭ ‬نظام‭ ‬مجتمعي‭ ‬أصبحت‭ ‬سلطة‭ ‬التشريع‭ ‬فيه‭ ‬بسبب‭ ‬ذلك‭  ‬للجهاز‭ ‬التنفيذي‭ ‬بدل‭ ‬جهاز‭ ‬الفقهاء‭ ‬الغارقون‭ ‬في‭ ‬اختلافاتهم،‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬أيضا‭ ‬انعكاس‭ ‬سلبي‭ ‬على‭ ‬الجهاز‭ ‬القضائي‭ ‬الذي‭ ‬انحصر‭ ‬اختصاصه‭ ‬تبعا‭ ‬لذلك‭  ‬في‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬القضايا‭ ‬المدنية‭ ‬والأحوال‭ ‬الشخصية‭ ‬دون‭ ‬القضايا‭ ‬الجنائية‭ ‬والادارية‭ ‬التي‭ ‬تولتها‭ ‬السلطة‭ ‬التنفيذية‭ ‬واستمرت‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬الحال‭ ‬الى‭ ‬أن‭ ‬طرق‭ ‬الاستعمار‭ ‬ابواب‭ ‬الدول‭ ‬الإسلامية‭.‬

‭ ‬أما‭ ‬الامام‭ ‬الشاطبي،‭ ‬الذي‭ ‬بفضل‭ ‬رؤيته‭ ‬الجديدة‭ ‬للشريعة‭ ‬فقد‭ ‬تجاوز‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬مرحلة‭ ‬المحاولة‭ ‬نحو إرساء‭ ‬حقيقي‭ ‬لعلم‭ ‬القانون‭ ‬يقوم‭ ‬مباشرة‭ ‬على‭ ‬المبادئ‭ ‬العامة‭ ‬لا‭ ‬على‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬أقوال‭ ‬الفقهاء‭ ‬المتناثرة‭ ‬والمتناقضة‭ .‬فبقصد‭ ‬إخراج‭ ‬علم‭ ‬أصول‭ ‬الفقه‭ ‬من‭ ‬خلافاته‭ ‬اللفظية‭ ‬والقياسية،‭ ‬قام‭ ‬بعملية‭ ‬استقراء‭ ‬شاملة‭ ‬لجميع‭ ‬الأوامر‭ ‬والأحكام‭ ‬الواردة‭ ‬بأهم‭ ‬المصادر‭ ‬التشريعية‭ ‬الاسلامية‭ ‬الاولى‭ ‬من‭ ‬كتاب‭ ‬وسنة‭ ‬صحيحة‭ ‬وإجماع‭ ‬وعمل‭ ‬الصحابة‭ ‬واجتهاداتهم،‭ ‬مستعينا‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬بإلمامه‭ ‬بلسان‭ ‬العرب‭ ‬واطلاعه‭ ‬تاريخيا‭ ‬على‭ ‬أحوالهم‭ ‬وعاداتهم‭ ‬وثقافتهم‭ ‬عموما‭ ‬حال‭ ‬التنزيل،‭ ‬ليتبين‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الشريعة‭ ‬المحمدية‭ ‬المباركة‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬مجملها‭‬‮ «‬تَخَلَّق‭ ‬بمكارم‭ ‬الاخلاق‮» ‬‭‬الذي‭ ‬كان‭ ‬العرب‭ ‬يتمدحون‭ ‬به‭ ‬قبل‭ ‬وإبان‭ ‬نزول‭ ‬الرسالة،‭ ‬تروم‭ ‬تحقيق‭ ‬العدل‭ ‬بين‭ ‬العباد‭ ‬ونشر‭ ‬الاحسان‭ ‬بينهم‭… ‬وتنهى‭ ‬عن‭ ‬الفساد‭ ‬والظلم‭ ‬والبغي‭…..‬وقد‭ ‬أطلق‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الأهداف‭ ‬أوالمقاصد‭ ‬مصطلح‭‬‮ «‬كليات‭ ‬معنوية‮»‭‬،‭ ‬وأحيانا‭ ‬لفظ‭ ‬أصول‭ ‬أو أدلة‭ ‬أو قواعد‭ ‬أو قوانين،‭ ‬وهي‭ ‬كلها‭ ‬لا‭ ‬تعدو أن‭ ‬تكون‭ ‬مبادئ‭ ‬أخلاقية‭ ‬عليا‭ ‬حسب‭ ‬تعبيرنا‭ ‬المعاصر‭ ‬وقوانين‭ ‬عامة‭ ‬محكمة‭ ‬مستنبطة‭ ‬من‭ ‬نفس‭ ‬المبادئ،‭ ‬وظيفتهما‭ ‬الأساسية‭ ‬هي‭ ‬كونهما‭ ‬منطلقات‭ ‬للتشريع‭ ‬والاجتهاد‭ ‬والحكم‭ ‬والاستنباط‭ ‬الفقهي‭. ‬فهذه‭ ‬الكليات‭ ‬أو القوانين‭ ‬أو الأصول‭ ‬هي‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬مقياس‭ ‬عام‭ ‬ومحكم‭ ‬لضبط‭ ‬النظر‭ ‬وتقويمه‭ ‬لأنها‭‬‮ «‬راجعة‭ ‬لأمر‭ ‬معقول‭ ‬لا‭ ‬يحصل‭ ‬في‭ ‬الخارج‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬ضمن‭ ‬(أوعبر)‭ ‬الجزئيات‮»‬‭‬ فهي‭ ‬تتنزل‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬جزئيات‭ ‬أو مواد‭ ‬قانونية‭ ‬تفصيلية‭ ‬بتعبيرنا‭ ‬المعاصر،‭ ‬يميل‭ ‬إليها‭ ‬بالفطرة‭ ‬كل‭ ‬طبع‭ ‬أو ضمير‭ ‬بشري‭ ‬(الإنسان‭ ‬خير‭ ‬بطبعه)‭‬،‭ ‬ويبتغي‭ ‬تحقيقها‭ ‬وتنزيلها‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬الواقع‭ ‬كل‭ ‬مجتمع‭ ‬إنساني،‭ ‬بغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬مكانه‭ ‬أو زمانه‭ ‬أو دينه، فقد‭‬‮ «‬دلت‭ ‬على‭ ‬ضرورة‭ ‬مراعاتها‭ ‬تجارب‭ ‬الامم‭ ‬السابقة‭ ‬وعاداتها‮»‬، ‬‮‬«كما‭ ‬أن‭ ‬الآيات‭ ‬أخبرت‭ ‬بوجودها‭ ‬في‭ ‬الشرائع‭ ‬المتقدمة‮»‬،‭ ‬ف‭‬‮«‬الضروريات‭ ‬(المستقرأة‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الكليات)‭ ‬كانت‭ ‬مراعاة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ملة،‭ ‬وإن‭ ‬اختلفت‭ ‬أوجه‭ ‬حفظها‭ ‬بحسب‭ ‬كل‭ ‬ملة‮»‬،‭ ‬فهي‭ ‬كليات‭ ‬عامة‭ ‬تجلب‭ ‬بطبيعتها‭ ‬المصالح‭ ‬لأي‭ ‬مجتمع‭ ‬وتدرأ‭ ‬المفاسد‭ ‬عنه،‭ ‬تروم‭ ‬أساسا‭ ‬حفظ‭ ‬ضروريات‭ ‬الإنسان‭ ‬الخمس‭ ‬من‭ ‬دين‭ ‬ونفس‭ ‬ونسل‭….‬ بالاضافة‭ ‬الى‭ ‬مكملاتها‭ ‬من‭ ‬حاجيات‭ ‬وتحسينات،‭ ‬فهي‭ ‬كليات‭ ‬أزلية‭ ‬غير‭ ‬قابلة‭ ‬للنسخ،‭ ‬مطردة،‭ ‬قطعية‭ ‬يصح‭ ‬وحدها‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬قوانين‭ ‬لغيرها،‭ ‬لأنها‭‬‮ «‬جاءت‭ ‬في‭ ‬عبارات‭ ‬مطلقة‭ ‬تتناول‭ ‬أعدادا‭ ‬لا‭ ‬تنحصر‭ ‬من‭ ‬الوقائع‭ ‬الجزئية‭ ‬التي‭ ‬يفرزها‭ ‬الواقع‭ ‬المتجدد‭…..‬ فهي‭ ‬صالحة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬زمان،‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬الوقائع‭ ‬وأكثرها‮» ‬‭‬غير‭ ‬مختصة‭ ‬بمكان‭ ‬دون‭ ‬مكان‭ ‬ولا‭ ‬بزمان‭ ‬دون‭ ‬زمان،‭ ‬جارية‭ ‬على‭ ‬مقتضى‭ ‬العقول،‭ ‬جاءت‭ ‬أسبق‭ ‬في‭ ‬النزول‭ ‬من‭ ‬الجزئيات‭ ‬لأنها‭ ‬نزلت‭ ‬بمكة‭ ‬أما‭ ‬الجزئيات‭ ‬فنزلت‭ ‬بالمدينة،‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬التشريع‭ ‬أكثر،‭ ‬بل‭ ‬وهي‭ ‬المقصودة‭ ‬بالحفظ‭ ‬في‭ ‬الآية‭ ‬الكريمة‭‬‮ «‬إنَّا‭ ‬نزلنا‭ ‬الذكر‭ ‬وإنَّا‭ ‬له‭ ‬لحافظون‮»‬،‭ ‬عرف‭ ‬بها‭ ‬القرآن‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬الاحكام‭ ‬الجزئية‭. ‬فهذه‭ ‬الكليات‭ ‬المعنوية‭ ‬الأخلاقية‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬استند‭ ‬عليها‭ ‬أساسا‭ ‬كبار‭ ‬الصحابة‭ ‬فجاءت‭ ‬اجتهاداتهم‭ ‬موفقة‭ ‬يبنى‭ ‬عليها‭.‬‮ ‬

أما‭ ‬الجزئيات‭ ‬والتفاصيل‭ ‬التشريعية،‭ ‬فقد‭ ‬نزلت‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ ‬لاحقة‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الكليات،‭ ‬فبعد‭ ‬أن‭ ‬استأنس‭ ‬العرب‭ ‬بالخطاب‭ ‬المكي‭ ‬الذي‭ ‬حضهم‭ ‬بصورة‭ ‬متكررة‭ ‬على‭ ‬مكارم‭ ‬الأخلاق‭ ‬ومحاسن‭ ‬الشيم‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬آياته‭ ‬الكثيرة‭ ‬التي‭ ‬نصت‭ ‬على‭ ‬ذلك،‭ ‬لانت‭ ‬قلوبهم‭ ‬من‭ ‬كثرة‭ ‬تذكيرهم‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬ومن‭ ‬انها‭ ‬لا‭ ‬تعدو أن‭ ‬تكون‭ ‬من‭ ‬ملة‭ ‬أبيهم‭ ‬إبراهيم‭….. ‬ابتدأ‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ ‬تفصيل‭ ‬التشريع‭ ‬تدريجيا‭ ‬فحرمت‭ ‬الخمر‭ ‬محافظة‭ ‬العقل‭ ‬والزنى‭ ‬محافظة‭ ‬على‭ ‬النسل،‭ ‬وإعطاء‭ ‬المرأة‭ ‬والصبي‭ ‬الصغير‭ ‬حظهما‭ ‬من‭ ‬الإرث‭ ‬أعمالا‭ ‬لمبدأ‭ ‬العدل‭ ‬والانصاف‭ ‬وحرمت‭ ‬الربا‭ ‬أخيرا‭ …‬الى‭ ‬غير‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬باقي‭ ‬الأحكام‭ ‬التفصيلية‭ ‬التي‭ ‬وردت‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ ‬وهي‭ ‬أحكام‭ ‬جاءت‭ ‬وفق‭ ‬العوائد‭ ‬الخاصة‭ ‬بذلك‭ ‬المجتمع‭ ‬وبانتظاراته‭ ‬وتطلعاته‭ ‬الدينية‭ ‬الخلاقية‭ ‬الجديدة،‭ ‬اذ‭ ‬يفترض‭ ‬دائما‭ ‬أن ‭‬‮«‬في‭ ‬كل‭ ‬نظام‭ ‬قانوني‭ ‬نوعا‭ ‬من‭ ‬القيم‭ ‬(الاخلاقية‭ (‬يعكسها‭ ‬هذا‭ ‬النظام‮»‬‭‬ كما‭ ‬لاحظ‭ ‬أحد‭ ‬المفكرين‭ ‬المعاصرين ‭ ‬125ص،‭ ‬لذلك‭ ‬لم‭ ‬تخرج‭ ‬هذه‭ ‬الأحكام‭ ‬الجزئية‭ ‬عما‭ ‬كان‭ ‬العمل‭ ‬جاريا‭ ‬به‭ ‬ف‭‬‮ «‬التكليف‭ ‬مبني‭ ‬على‭ ‬استقرار‭ ‬عوائد‭ ‬المكلفين‮»‬‭‬ فلو كانت‭ ‬الشريعة‭ ‬كلفتهم‭ ‬بأحكام‭ ‬(كلية‭ ‬أو جزئية)‭ ‬غريبة‭ ‬عن‭ ‬واقعهم‭ ‬أوغير‭ ‬متسقة‭ ‬ومتناسبة‭ ‬مع‭ ‬ظروفهم‭ ‬الاجتماعية‭ ‬وأوضاعهم‭ ‬المعيشية‭ ‬معه‭ ‬لكان‭ ‬تكليفا‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬يُطاق،‭ ‬فمواكبة‭ ‬الشريعة‭ ‬الإسلامية‭ ‬في‭ ‬كلياتها‭ ‬وجزئياتها‭ ‬للمبادئ‭ ‬الأخلاقية‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬العرب‭ ‬يتمدحون‭ ‬بها‭ ‬قبل‭ ‬الإسلام‭ ‬وإبقائها‭ ‬على‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأحكام‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬قبل‭ ‬نزول‭ ‬الرسالة‭ ‬جارية‭ ‬التطبيق‭ ‬عندهم‭ ‬باعتبارها‭ ‬تطبيقا‭ ‬عمليا‭ ‬محمودا‭ ‬لهذه‭ ‬المبادئ‭ ‬مثل‭ ‬قطع‭ ‬يد‭ ‬السارق‭ ‬وصلب‭ ‬قاطع‭ ‬الطريق‭ ‬وتحريم‭ ‬لجمع‭ ‬بين‭ ‬الأختين‭ ‬والشفعة‭ ‬وأداء‭ ‬اليمين‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬باقي‭ ‬الحكام‭ ‬الجزئية‭ ‬الأخرى‭ ‬التي‭ ‬اقتصر‭ ‬الاسلام‭ ‬على‭ ‬الاستمرار‭ ‬في‭ ‬تبني‭ ‬العمل‭ ‬بها‭ ‬لعدم‭ ‬تناقضها‭ ‬مع‭ ‬مبادئه‭ ‬الأخلاقية‭ ‬ومعايير‭ ‬التقوى‭ ‬الدينية‭ ‬المطلوبة،‭ ‬أملتها‭ ‬ضرورة‭ ‬أن‭ ‬أي‭ ‬نظام‭ ‬قانوني‭ ‬أوتشريع‭ ‬جديد،‭ ‬وحتى‭ ‬يضمن‭ ‬قبولا‭ ‬عاما‭ ‬داخل‭ ‬الوسط‭ ‬الذي‭ ‬شرع‭ ‬لأجله،‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يحافظ‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الأخلاقي‭ ‬العام‭ ‬لذلك‭ ‬الوسط‭ ‬حتى‭ ‬يضمن‭ ‬حدا‭ ‬أدنى‭ ‬من‭ ‬الطاعة‭ ‬الأخلاقية‭ ‬له‭ ‬والا‭ ‬بقي‭ ‬حروفا‭ ‬ميتة‭. ‬‮«‬لذلك‭ ‬وجب‭ ‬دائما‭ ‬مراعاة‭ ‬العوائد‭ ‬الجارية‮»‬،‭ ‬فمثلا‭ ‬قد‭ ‬ثبت‭ ‬(بالنسبة‭ ‬لامة‭ ‬العرب‭ ‬التي‭ ‬نزل‭ ‬فيها‭ ‬الخطاب)‭ ‬أن‭‬‮ «‬الزجر‭ ‬سبب‭ ‬الانكفاف‭ ‬عن‭ ‬المخالفة،‭ ‬فلولم‭ ‬يعتبر‭ ‬الشرع‭ ‬هذه‭ ‬العادة‭ ‬‭أ‬وهذا‭ ‬الطبع‭ ‬في‭ ‬العرب‭) ‬لم‭ ‬يتحتم‭ ‬القصاص‭ (‬في‭ ‬القرآن‭ ‬ولم‭ ‬يشرع،‭ ‬فجاءت‭ ‬العقوبات‭ ‬فيه‭ ‬وفي‭ ‬جرائم‭ ‬الحدود‭ ‬عامة‭ ‬بحسب‭ ‬الطريقة‭ ‬المتعارف‭ ‬عليها‭ ‬والمقبولة‭ ‬بينهم‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬العرب‭ ‬قبل‭ ‬نزول‭ ‬الرسالة‭ ‬وفي‭ ‬إبانها،‭ ‬فكان‭ ‬القتل‭ ‬والقطع‭ ‬والجلد‭ ‬والرجم‭ ‬والصلب،‭ ‬وهي‭‬‮ «‬عقوبات‭ ‬تقررت‭ ‬في‭ ‬الجزئيات‭ ‬لا‭ ‬الكليات‮» ‬‭‬كان‭ ‬العمل‭ ‬جاريا‭ ‬بها‭ ‬وبأساليبها‭ ‬عندهم‭ ‬في‭ ‬الجاهلية‭ ‬قبل‭ ‬الإسلام‭ ‬فأحكم‭ ‬القرآن‭ ‬منها‭ ‬ما‭ ‬احكم‭ ‬بعد‭ ‬ذلك،‭ ‬فلو جاءت‭ ‬أحكام‭ ‬العقوبات‭ ‬في‭ ‬الخطاب‭ ‬القرآني‭ ‬بأشكال‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يعرفها‭ ‬العرب‭ ‬إبان‭ ‬تلك‭ ‬المرحلة،‭ ‬كالسجن‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬معهودا‭ ‬عندهم‭ ‬مثلا،‭ ‬أو أن‭ ‬القرآن‭ ‬امتدح‭ ‬مرتكبي‭ ‬هذه‭ ‬الجرائم‭ ‬أو خصص‭ ‬لها‭ ‬عقوبات‭ ‬واهية‭ ‬أومبالَغ‭ ‬في‭ ‬شدتها‭ ‬في‭ ‬نظر‭ ‬العرب‭ ‬آنذاك،‭ ‬لكان‭ ‬مصيرها‭ ‬الرفض‭ ‬والرد،‭ ‬لأنها‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬كانت‭ ‬ستسبب‭ ‬الحرج‭ ‬والمشقة‭ ‬لهم‭ ‬أثناء‭ ‬الامتثال‭ ‬لها‭ ‬وتكلفهم‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬يُطيقونه،‭ ‬ومن‭ ‬جهة‭ ‬اخرى،‭ ‬لأنها‭ ‬كانت‭ ‬ستخرق‭ ‬العوائد‭ ‬الجارية‭ ‬بينهم‭ ‬وتحبط‭ ‬تطلعاتهم‭ ‬وانتظاراتهم،‭ ‬بل‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬كانت‭ ‬ستأتي‭ ‬متناقضة‭ ‬مع ‭‬‮«‬الاحكام‭ ‬الكلية‭ ‬‮»‬التي‭ ‬دعت‭ ‬معظم‭ ‬آيات‭ ‬القرآن‭ ‬إليها‭ ‬خلال‭ ‬المرحلة‭ ‬المكية‭ ‬التمهيدية‭ ‬من‭ ‬تنزيله‭.‬‮ ‬

لذلك‭ ‬أكد‭ ‬الامام‭ ‬الشاطبي‭ ‬في‭ ‬غير‭ ‬ما‭ ‬مرة‭ ‬بضرورة‭ ‬مراعاة‭ ‬كليات‭ ‬الشريعة‭ ‬أثناء‭ ‬تنزيل‭ ‬أحكامها‭ ‬الجزئية‭ ‬التفصيلية،‭ ‬ف‭ ‬‮«‬المصالح‭ ‬المعتبرة‭ ‬هي‭ ‬الكليات‭ ‬دون‭ ‬الجزئيات‮» ‬‭‬لأن‭ ‬هذه‭ ‬الأخيرة ‭‬‮«‬قد‭ ‬تتطرق‭ ‬إليها‭ ‬الاحتمالات‮»‬،‭ ‬و‮«‬قد‭ ‬تتعطل‭ ‬كذلك،‭ ‬فلا‭ ‬يؤثر‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬عموم‭ ‬الشريعة‭ ‬لأنها،‭ ‬أي‭ ‬الشريعة‮»، لا‭ ‬تتعطل‭ ‬بتعطل‭ ‬بعض‭ ‬الجزئيات‭…‬ إذ‭ ‬لا‭ ‬ضرر‭ ‬على‭ ‬الشريعة‭ ‬في‭ ‬ذلك ‭‬‮«‬لأن‭ ‬المطلوب‭ ‬دائما‭ ‬هو المحافظة‭ ‬على‭ ‬قصد‭ ‬الشارع‭ ‬الكلي‭ ‬أثناء‭ ‬تطبيق‭ ‬النص‭ ‬الجزئي‮»‬،‭ ‬فعندما‭ ‬نقصد‭ ‬إقامة‭ ‬وتطبيق‭ ‬حكم‭ ‬جزئي،‭ ‬فيجب‭ ‬أن‭ ‬نضع‭ ‬نصب‭ ‬أعيننا‭ ‬مقصده‭ ‬الكلي‭ ‬العام،‭ ‬لأنه‭ ‬إذا‭ ‬تخلف‭ ‬عنه‭ ‬‮ «‬تخلفت‭ ‬مصلحته‭ ‬بالتشريع‮». ‬‭‬فإذا‭ ‬كان‭ ‬عمر‭ ‬ض‭ ‬قد‭ ‬أوقف‭ ‬العمل‭ ‬بحد‭ ‬القطع‭ ‬في‭ ‬جريمة‭ ‬السرقة‭ ‬عام‭ ‬الرمادة‭ ‬أو المجاعة،‭ ‬فلأن‭ ‬المقصد‭ ‬الكلي‭ ‬من‭ ‬تطبيق‭ ‬هذا‭ ‬الحكم‭ ‬الجزئي‭ ‬(القطع)‭ ‬والذي‭ ‬هو عموما‭ ‬إقامة‭ ‬العدل‭ ‬المقتضي‭ ‬هنا‭ ‬ضرورة‭ ‬حفظ‭ ‬المال،‭ ‬لن‭ ‬يتحقق‭.‬ إذ‭ ‬رأى‭ ‬عمر‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ليكون‭ ‬عدلا‭‬‮ «‬في‭ ‬ظل‭ ‬مجاعة‭ ‬عامة‭ ‬وشاملة‮» ‬‭‬أن‭ ‬يقطع‭ ‬أيدي‭ ‬جميع‭ ‬المواطنين،‭ ‬لحالة‭ ‬الضرورة‭ ‬التي‭ ‬وجدوا‭ ‬عليها‭ ‬أنفسهم‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬ومن‭ ‬جهة‭ ‬أخرى،‭ ‬لأن‭ ‬القطع،‭ ‬وهوحكم‭ ‬جزئي،‭ ‬لن‭ ‬يحقق‭ ‬النتيجة‭ ‬المرجوة‭ ‬منه‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬والتي‭ ‬هي‭ ‬الازدجار‭ ‬وبالتالي‭ ‬تحقيق‭ ‬مقصد‭ ‬حفظ‭ ‬المال،‭ ‬ما‭ ‬دام‭ ‬أنها‭ ‬مجاعة‭ ‬مستمرة‭ ‬في‭ ‬الزمان،‭ ‬إذ‭ ‬لو كان‭ ‬قد‭ ‬عمد‭ ‬الى‭ ‬قطع‭ ‬يد‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬سرق‭ ‬ليسد‭ ‬جوعه،‭ ‬لوجد‭ ‬نفسه،‭ ‬بعد‭ ‬ارتفاع‭ ‬حالة‭ ‬الجوع‭ ‬وحصول‭ ‬الشبع‭ ‬والرفاه،‭ ‬أمام‭ ‬جيش‭ ‬من‭ ‬العاطلين‭ ‬مقطوعي‭ ‬الأيدي‭ ‬وهو ما‭ ‬كان‭ ‬يراه‭ ‬ظلما‭ ‬وإضرارا‭ ‬بالمصالح‭ ‬الاقتصادية‭ ‬المستقبلية‭ ‬للمجتمع‭. ‬فعمر‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬النازلة‭ ‬المشهورة،‭ ‬بالاضافة‭ ‬الى‭ ‬أخذه‭ ‬بعين‭ ‬الاعتبار‭ ‬حالة‭ ‬الضرورة،‭ ‬راعى‭ ‬كذلك‭ ‬ما‭ ‬أطلق‭ ‬عليه‭ ‬الإمام‭ ‬الشاطبي‭ ‬لاحقا ‭‬‮: «‬النظر‭ ‬الى‭ ‬مآلات‭ ‬الأحكام‮» ‬‭‬وهو‭ ‬مقصد‭ ‬شرعي‭ ‬جد‭ ‬مهم‭ ‬سنذكر‭ ‬أهميته‭ ‬المنهجية‭ ‬في‭ ‬تطبيق‭ ‬الأحكام‭ ‬والتشريع‭ ‬لها‭.‬

كانت‭ ‬هذه‭ ‬بشكل‭ ‬مختصر‭ ‬أهم‭ ‬المنطلقات‭ ‬الفكرية‭ ‬التي‭ ‬انطلق‭ ‬منها‭ ‬امام‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬الهجري‭ ‬بدون‭ ‬منازع،‭  ‬للقول‭ ‬بالاجتهاد‭ ‬والتشريع‭ ‬وفقا‭ ‬للمقاصد‭ ‬العامة‭ ‬للشريعة‭ ‬الإسلامية‭ ‬والتي‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬الأصل‭ ‬الأول ‭ ‬‮«‬كليات‭ ‬أخلاقية‮» ‬‭‬يميل‭ ‬إليها‭ ‬بالفطرة‭ ‬كل‭ ‬ضمير‭ ‬بشري،‭ ‬ويروم‭ ‬تحقيقها‭ ‬كل‭ ‬تجمع‭ ‬إنساني‭ ‬بغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬مكانه‭ ‬أو زمانه،‭ ‬قابلة‭ ‬لان‭ ‬تتنزل‭ ‬على‭ ‬الواقع‭ ‬وتتكيف‭ ‬معه‭ ‬بحسب‭ ‬الظروف‭ ‬والعوائد‭ ‬الثقافية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬لكل‭ ‬مجتمع‭ ‬لكن‭ ‬حسبما‭ ‬يراه‭ ‬عقلاؤهم‭ ‬وذوي‭ ‬الفضل‭ ‬منهم ‭‬‮«‬فالطبيعة‭ ‬البشرية،‭ ‬كما‭ ‬سيؤكد‭ ‬لاحقا‭ ‬القانونيون‭ ‬المعاصرون،‭ ‬واحدة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان‭ ‬وزمان،‭ ‬وإذا‭ ‬تعمقت‭ ‬في‭ ‬غورها‭ ‬فانك‭ ‬ستجد‭ ‬قواعد‭ ‬أخلاقية،‭ ‬أساسية،‭ ‬راسخة‭ ‬وستظل‭ ‬راسخة‭ ‬وفعالة‮». ‬‭‬تكون‭ ‬دائما‭ ‬هي‭ ‬المنطلق‭ ‬والمعيار‭ ‬العام‭ ‬لأي‭ ‬تشريع‭ ‬أو قانون‭ ‬يصدر‭.‬

لكن‭ ‬كيف‭ ‬يمكننا‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬اعتناقنا‭ ‬لشريعة‭ ‬سمحة،‭ ‬عادلة‭ ‬ومنصفة‭ ‬لكلا‭ ‬الجنسين،‭ ‬قابلة‭ ‬بفضل‭ ‬كلياتها‭ ‬ومبادئها‭ ‬الاخلاقية‭ ‬الانسانية‭ ‬الأزلية‭ ‬للتكيف‭ ‬مع‭ ‬أي‭ ‬واقع،‭ ‬مراعية‭ ‬بطبيعتها‭ ‬لتبدل‭ ‬ظروف‭ ‬وعوائد‭ ‬الممتثلين‭ ‬لها،‭ ‬أن‭ ‬نقول‭ ‬اليوم‭ ‬بأحقية‭ ‬المرأة،‭ ‬ذلك‭ ‬النصف‭ ‬من‭ ‬المجتمع،‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬نجعل‭ ‬لها‭ ‬نصيبا‭ ‬في‭ ‬الإرث‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬تستحقه‭ ‬حسب‭ ‬النص‭ ‬القرآني‭ ‬أو تأخذ‭ ‬مثل‭ ‬نصيب‭ ‬الذكر؟‭ ‬هل‭ ‬صحيح‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬القسمة‭ ‬منصفة،‭ ‬لا‭ ‬زالت‭ ‬تحقق‭ ‬نفس‭ ‬العدل‭ ‬الذي‭ ‬حققته‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬نزول‭ ‬الوحي‭ ‬والذي‭ ‬استمرت‭ ‬تحققه‭ ‬لقرون‭ ‬طويلة‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬نظرا‭ ‬لعدم‭ ‬تغير‭ ‬واقع‭ ‬هذا‭ ‬المجتمع‭ ‬خاصة‭ ‬بالنسبة‭ ‬للمرأة‭ ‬التي‭ ‬ظلت‭ ‬في‭ ‬الغالب،‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬القرون،‭ ‬قارة‭ ‬في‭ ‬بيتها،‭ ‬تحت‭ ‬زوج‭ ‬يعولها،‭ ‬ووحده‭ ‬من‭ ‬فرض‭ ‬عليه‭ ‬النص‭ ‬القرآني‭ ‬أن‭ ‬يخرج‭ ‬للاكتساب‭ ‬لها‭ ‬ولأبناءها؟‮ ‬

ثم‭ ‬ماذا‭ ‬لو أصبحت‭ ‬هذه‭ ‬المرأة‭ ‬تكتسب‭ ‬هي‭ ‬كذلك‭ ‬وتعول‭ ‬أبناءها‭ ‬وتشارك‭ ‬زوجها‭ ‬في‭‬‮ «‬القوامة‮»‬‭ ‬المادية‭ ‬على‭ ‬أسرتهما،‭ ‬بل‭ ‬وحتى‭ ‬عليه‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬اكتسابه‭ ‬يكفي‭ ‬أو تعطل‭ ‬عنه؟‭ ‬هل‭ ‬سيكون‭ ‬من‭ ‬العدل‭ ‬ان‭ ‬تكتسب‭ ‬المراة‭ ‬لها‭ ‬ولزوجها‭ ‬ثم‭ ‬عندما‭ ‬يموت‭ ‬هذا‭ ‬الأخير‭ ‬ينال‭‬‮ «‬عصبته‮»‬،‭ ‬هذا‭ ‬المصطلح‭ ‬والمفهوم‭ ‬ذو الجذور الجاهلية‭ ‬القبلية،‭ ‬أغلب‭ ‬ما‭ ‬جنته‭ ‬من‭ ‬اكتسابها‭ ‬فلا‭ ‬يبقى‭ ‬لها‭ ‬منه‭ ‬سوى‭ ‬الثمن‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬ينجبا‭ ‬أبناء؟‭ ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬نقول‭ ‬اليوم‭ ‬بأن‭ ‬المرأة‭ ‬تنال‭ ‬نصف‭ ‬حظ‭ ‬الرجل‭ ‬لأن‭ ‬الاخير‭ ‬فُرِض‭ ‬عليه‭ ‬دينيا‭ ‬الإنفاق‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أنها‭ ‬اليوم‭ ‬أضحت‭ ‬مكتسبة‭ ‬مثلها‭ ‬مثله،‭ ‬تشاركه‭ ‬الند‭ ‬للند‭ ‬جميع‭ ‬الأعمال‭ ‬والمهن‭ ‬المدِرة‭ ‬للدخل؟‭ ‬هل‭ ‬الطبيعة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬لمجتمعنا‭ ‬والذي‭ ‬تفرض‭ ‬عليه‭ ‬اليوم،‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬عولمة‭ ‬ثقافية‭ ‬واقتصادية‭ ‬وعلمية‭ ‬شاملة،‭ ‬الدخول‭ ‬في‭ ‬منافسة‭ ‬دائمة‭ ‬وشاملة‭ ‬وشرسة‭ ‬مع‭ ‬الاقتصادات‭ ‬الاخرى‭ ‬حتى‭ ‬نرفع‭ ‬إنتاجنا‭ ‬ونحسنه،‭ ‬أن‭ ‬نبقي‭ ‬نصف‭ ‬المجتمع‭ ‬الذي‭ ‬نعيش‭ ‬فيه‭ ‬حبيس‭ ‬الجدران‭ ‬الأربعة،‭ ‬مشلول‭ ‬الانتاج‭ ‬الفكري‭ ‬وعاطل‭ ‬العمل‭ ‬اليدوي‭ ‬والمهني،‭ ‬ونحرم‭ ‬بالتالي‭ ‬شركاتنا‭ ‬ومعاهدناومدارسنا‭ ‬ووو‭…….. ‬من‭ ‬إبداع‭ ‬عقول‭ ‬وعمل‭ ‬وابتكار‭ ‬أيادي‭ ‬تشكل‭ ‬نصف‭ ‬المجتمع،‭ ‬مفضلين‭ ‬عوض‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬يقبعن‭ ‬في‭ ‬بيوتهن‭. ‬صحيح‭ ‬أن‭ ‬المرأة‭ ‬تلعب‭ ‬دورا‭ ‬مهما‭ ‬في‭ ‬تربية‭ ‬الأبناء‭ ‬وتنشئتهم،‭ ‬لكنها‭ ‬اليوم،‭ ‬وحسب‭ ‬آخر‭ ‬الاحصائيات‭ ‬الصادرة،‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬تنجب‭ ‬ذلك‭ ‬العدد‭ ‬الهائل‭ ‬من‭ ‬الأبناء‭ ‬والذي‭ ‬كان‭ ‬يصل‭ ‬فيما‭ ‬مضى‭ ‬الى‭ ‬التسعة‭ ‬أو العشرة‭ ‬أو أكثر،‭ ‬والذي‭ ‬كان‭ ‬يجعلها‭ ‬تمضي‭ ‬كل‭ ‬حياتها‭ ‬تربي‭ ‬الابن‭ ‬تلو‭ ‬الآن‭.‬ اليوم،‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬المراة‭ ‬تنجب‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ثلاثة‭ ‬أبناء‭ ‬على‭ ‬اكثر‭ ‬تقدير‭ ‬حسب‭ ‬نفس‭ ‬الاحصائيات،‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬أنه‭ ‬علينا‭ ‬حرمانها‭ ‬من‭ ‬التعليم‭ ‬ومعانقة‭ ‬الحياة‭ ‬العملية،‭ ‬فالوضع‭ ‬الاقتصادي‭ ‬والعلمي‭ ‬المتدهور‭ ‬لأغلب‭ ‬الدول‭ ‬المسلمة‭ ‬اليوم‭ ‬والذي‭ ‬يفرض‭ ‬علينا‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬وقت‭ ‬مضى،‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬موطئ‭ ‬قدم‭ ‬بين‭ ‬الامم‭ ‬القوية‭ ‬والتطلع‭ ‬لمنافستها‭ ‬على‭ ‬جميع‭ ‬الأصعدة‭ ‬طبقا‭ ‬للآية‭ ‬الكريمة‭‬‮ «‬وأعدوا‭ ‬لهم‭ ‬ما‭ ‬استطعتم‭ ‬من‭ ‬قوة‭ ‬ورباط‭ ‬الخيل‮»‬،‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬يسمح‭ ‬لنا‭ ‬بإبقائها‭ ‬حبيسة‭ ‬البيوت‭ ‬بل‭ ‬يستوجب‭ ‬أن‭ ‬نبعث‭ ‬الروح‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬العقول‭ ‬والايادي‭ ‬التي‭ ‬ظلت‭ ‬غير‭ ‬مُستثمَرة‭ ‬لقرون‭ ‬طويلة‭ ‬مضت،‭ ‬والتي‭ ‬لم‭ ‬تبدأ‭ ‬عموما‭ ‬في‭ ‬معانقة‭ ‬الحياة‭ ‬العملية‭ ‬والعلمية‭ ‬واختراقها‭ ‬شيئا‭ ‬فشيئا،‭ ‬إلا‭ ‬قبل‭ ‬حوالي‭ ‬خمسين‭ ‬سنة‭ ‬فقط،‭ ‬حتى‭ ‬أضحت‭ ‬اليوم‭ ‬تنتج‭ ‬وتكتسب‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬المجالات‭ ‬المهنية‭ ‬والفكرية‭ ‬مثلها‭ ‬مثل‭ ‬الرجل‭. ‬فالمطلوب‭ ‬اليوم‭ ‬هو أن‭ ‬نتكيف‭ ‬مع‭ ‬الواقع‭ ‬الجديد،‭ ‬المتغير‭ ‬جذريا،‭ ‬الذي‭ ‬أصبح‭ ‬عليه‭ ‬هذا‭ ‬النصف‭ ‬من‭ ‬المجتمع،‭ ‬ونُكيف‭ ‬بالتالي‭ ‬الشريعة‭ ‬في‭ ‬مفهومها‭ ‬العام،‭ ‬ككليات‭ ‬أخلاقية،‭ ‬معه،لا‭ ‬أن‭ ‬نفرض‭ ‬واقعا‭ ‬قديما‭ ‬عليه‭ ‬أفلحت‭ ‬الشريعة‭ ‬حقا‭ ‬في‭ ‬التكيف‭ ‬معه‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬من‭ ‬الأوقات،‭ ‬فمادام‭ ‬أن‭ ‬الشريعة‭ ‬وردت‭ ‬وساوت‭ ‬بين‭ ‬نِصفيْ‭ ‬المجتمع‭ ‬في‭ ‬أغلب‭ ‬أحكامها‭ ‬الكلية‭ ‬والجزئية،‭ ‬فإن‭ ‬التقليل‭ ‬من‭ ‬حظ‭ ‬المرأة‭ ‬في‭ ‬أحكام‭ ‬الإرث‭ ‬أملته‭ ‬الظروف‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والثقافية‭ ‬الخاصة‭ ‬بمجتمع‭ ‬نزول‭ ‬الوحي‭ ‬والذي‭ ‬أشرت‭ ‬الى‭ ‬بعض‭ ‬حقائقه‭ ‬التاريخية‭ ‬سابقا،‭ ‬أما‭ ‬وقد‭ ‬تغيرت‭ ‬هذه‭ ‬الظروف‭ ‬كليا،‭ ‬فيجب‭ ‬بالضرورة‭ ‬أن‭ ‬نعدل‭ ‬الأحكام‭ ‬الجزئية‭ ‬للإرث‭ ‬بصورة‭ ‬خاصة‭ ‬حتى‭ ‬تساير‭ ‬الأحكام‭ ‬الكلية‭ ‬وهي‭ ‬اقامة‭ ‬العدل‭ ‬وتحقيق‭ ‬مصلحة‭ ‬المجتمع‭ ‬عامة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مصلحة‭ ‬الأسرة‭ ‬بشكل‭ ‬خاص‭ ‬باعتبارها‭ ‬النواة‭ ‬الأولى‭ ‬لهذا‭ ‬المجتمع‭ ‬ومرآته‭. ‬فهل‭ ‬المراة‭ ‬اليوم‭ ‬عندما‭ ‬تأخذ‭ ‬نصيبها‭ ‬الحالي‭ ‬من‭ ‬الإرث‭ ‬سواء‭ ‬كان‭ ‬نصف‭ ‬أو ربعا‭ ‬أو ثمنا،‭ ‬أوتقبض‭ ‬أجرتها‭ ‬الشهرية‭ ‬أو مدخول‭ ‬عملها‭ ‬اليدوي‭ ‬أوالتجاري،‭  ‬تحتفظ‭ ‬به‭ ‬لنفسها؟‭ ‬أغلب‭ ‬النساء‭ ‬بل‭ ‬كلهن‭ ‬يقمن‭ ‬بضخ‭ ‬ما‭ ‬حصلن‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬لفائدة‭ ‬ومصلحة‭ ‬أسرتهن‭ ‬الصغيرة‭ ‬وأبناءهن‭ ‬بالدرجة‭ ‬الأولى،‭ ‬فأمام‭ ‬تكاليف‭ ‬الحياة‭ ‬المتصاعدة‭ ‬والمتنوعة،‭ ‬أصبح‭ ‬من‭ ‬مساوئ‭ ‬الأخلاق‭ ‬والشيم‭ ‬أن‭ ‬تحتفظ‭ ‬المرأة‭ ‬بنصيبها‭ ‬وتصرفه‭ ‬على‭ ‬نفسها‭ ‬بكل‭ ‬أنانية‭ ‬وتمنع‭ ‬أبناءها‭ ‬أو زوجها‭ ‬عنه‭ ‬اذا‭ ‬كانوا‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬اليه‭. ‬لا‭ ‬أعتقد‭ ‬أن‭ ‬امرأة‭ ‬تفعل‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم‭ ‬فالظروف‭ ‬الجديدة‭ ‬للمجتمع‭ ‬وحنينها‭ ‬الفطري‭ ‬يأبيان‭ ‬منها‭ ‬ذلك‭. ‬

ثم‭ ‬ان‭ ‬علة‭ ‬أومعنى‭ ‬أي‭ ‬حكم‭ ‬عملي‭ ‬مرتبط‭ ‬بظروفه‭ ‬بحيث‭ ‬يُفهم‭ ‬انطلاقا‭ ‬من‭ ‬الاطلاع‭ ‬على‭ ‬أسباب‭ ‬نزوله، ‭‬‮«‬لأن‭ ‬الأصل‭ ‬في‭ ‬العادات‭ ‬(الأحكام‭ ‬العملية)‭ ‬الالتفات‭ ‬الى‭ ‬المعاني‮»‬‭‬ و ‮«‬الشارع‭ ‬توسع‭ ‬في‭ ‬بيان‭ ‬العلل‭ ‬والحكم‭ ‬في‭ ‬تشريع‭ ‬باب‭ ‬المعاملات‭…..‬وأكثر‭ ‬ما‭ ‬علل‭ ‬فيها‭ ‬بالمناسب‭ ‬الذي‭ ‬إذا‭ ‬عُرض‭ ‬على‭ ‬العقول‭ ‬تلقته‭ ‬بالقبول‮»‬،‭ ‬فهل‭ ‬عقولنا‭ ‬اليوم‭ ‬تقبل‭ ‬أن‭ ‬نطرد‭ ‬ونشرد‭ ‬تلك‭ ‬السيدة‭ ‬التي‭ ‬حضرت‭ ‬الى‭ ‬مكتبي،‭ ‬من‭ ‬منزلها‭ ‬هي‭ ‬وابنتها‭ ‬بِداعي‭ ‬تمكين‭ ‬عصبة‭ ‬زوجها‭ ‬المتوفى‭ ‬من‭ ‬الارث،‭ ‬وهل‭ ‬يعد‭ ‬من‭ ‬مكارم‭ ‬الاخلاق‭ ‬ومحاسن‭ ‬الشيم‭ ‬اللذان‭ ‬بُنيت‭ ‬عليهما‭ ‬الشريعة،‭ ‬أن‭ ‬يشارك‭ ‬الرجل‭ ‬أُجرة‭ ‬أومدخول‭ ‬زوجته‭ ‬المادي‭ ‬في‭ ‬الإنفاق‭ ‬على‭ ‬أبناءهما‭ ‬معا،‭ ‬وهووضع‭ ‬تجري‭ ‬به‭ ‬العوائد‭ ‬اليوم،‭ ‬ثم‭ ‬عند‭ ‬اقتسام‭ ‬الارث‭ ‬تنال‭ ‬المرأة‭ ‬فقط‭ ‬نصف‭ ‬حظ‭ ‬الرجل‭ ‬بدعوى‭ ‬أنه‭ ‬ينفق‭ ‬أوسينفق‭ ‬عليها‭ ‬مستقبلا‭ ‬عندما‭ ‬تصير‭ ‬زوجة،‭ ‬وهوأمر‭ ‬احتمالي،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬الواقع‭ ‬الغالب‭ ‬هوغير‭ ‬ذلك، ‭‬‮«‬فلنَسْتٓفْتِ‭ ‬قلوبنا‮» ‬‭‬كما‭ ‬أوصى‭ ‬الإمام‭ ‬الغزالي،‭ ‬ثم‭ ‬إن‭ ‬الأحكام‭ ‬لا‭ ‬تُبنى‭ ‬على‭ ‬الاحتمالات‭ ‬بل‭ ‬على‭ ‬واقع‭ ‬مُتٓيٓقنٍ‭ ‬منه‭ ‬والعبرة‭ ‬فيها‭ ‬أن‭ ‬تأتي‭ ‬دائما‭ ‬حسب‭ ‬وبما‭ ‬جرت‭ ‬عليه‭ ‬العوائد‭ ‬المتجددة‭ ‬والظروف‭ ‬المستجدَّة،‭ ‬لا‭ ‬أن‭ ‬تظل‭ ‬متحكِّمة‭ ‬فيه‭ ‬فتصير‭ ‬حَرَجا‭ ‬على‭ ‬العباد‭ ‬وتكليفا‭ ‬لهم‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬يُطاق‭ ‬وتخرج‭ ‬بالتالي‭ ‬عن‭ ‬معايير‭ ‬العدل‭ ‬الذي‭ ‬أمرت‭ ‬به‭ ‬الشريعة‭ ‬كحكم‭ ‬كلي‭ ‬محوري‭. ‬فلوجَمٓدٓ‭ ‬عمر‭ ‬ض‭ ‬على‭ ‬حكم‭ ‬القطع‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬سرقة‭ ‬حدثت‭ ‬عام‭ ‬المجاعة،‭ ‬وهو وضع‭ ‬جديد‭ ‬وطارئ‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يعرف‭ ‬أحد‭ ‬متى‭ ‬سيرتفع،‭ ‬لكان‭ ‬ظلما‭ ‬للعباد‭ ‬وإفسادا‭ ‬لعموم‭ ‬المجتمع‭ ‬وتهديدا‭ ‬لمستقبله‭ ‬وهو ما‭ ‬تنهى‭ ‬عنه‭ ‬الشريعة‭ ‬في‭ ‬مبادئها‭ ‬وكلياتها‭ ‬الأخلاقية‭.‬

ثم‭ ‬لنتساءل‭ ‬مرة‭ ‬أخرى،‭ ‬ألا‭ ‬يوجد‭ ‬طيلة‭ ‬الأربعة‭ ‬عشر‭ ‬قرنا‭ ‬الماضية‭ ‬أي‭ ‬اجتهاد‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الشأن؟‭ ‬ألم‭ ‬يثبت‭ ‬أن‭ ‬الخليفة‭ ‬عمر‭ ‬ض‭ ‬سبق‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬اجتهاد‭ ‬لم‭ ‬يشتهر‭ ‬كغيره‭ ‬من‭ ‬الاجتهادات‭ ‬الاخرى،‭ ‬أن‭ ‬تجاوز‭ ‬القسمة‭ ‬الحرفية‭ ‬الواردة‭ ‬بالنص‭ ‬القرآني،‭ ‬المنظمة‭ ‬لعملية‭ ‬اقتسام‭ ‬التركة‭ ‬مانحا‭ ‬الزوجة‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬حظها‭ ‬المحدد؟‮ ‬

ذلك‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬في‭ :‬‮ ‬

قضیة‭ ‬عامر‭ ‬بن‭ ‬الحارث‭ ‬وزوجته‭ ‬حبیبة‭ ‬بنت‭ ‬زریق،‭ ‬التي‭ ‬ذكرھا‭ ‬ابن‭ ‬زمنین‭ ‬في‭ ‬منتخب‭ ‬الأحكام،‭ ‬وعزاھا‭ ‬لابن‭ ‬حبیب‭ ‬في‭ ‬الواضحة‭ ‬قائلا‭: ‬والأصل‭ ‬في‭ ‬شركة‭ ‬الزوجین‭ ‬قضیة‭ ‬المذكورین؛‭ ‬كان‭ ‬عامر‭ ‬قصارا‭ ‬وزوجته‭ ‬حبیبة‭ ‬ترقم‭ ‬الثیاب‭ ‬حتى‭ ‬اكتسبا‭ ‬مالا‭ ‬كثیرا،‭ ‬فمات‭ ‬عامر‭ ‬وترك‭ ‬أموالا،‭ ‬فأخذ‭ ‬ورثته‭ ‬مفاتیح‭ ‬المخازن‭ ‬والأجنة،‭ ‬واقتسموا،‭ ‬ثم‭ ‬قامت‭ ‬علیھم‭ ‬حبیبة‭ ‬المذكورة‭ ‬وادعت‭ ‬عمل‭ ‬یدھا‭ ‬وسعایتھا،‭ ‬فترافعت‭ ‬مع‭ ‬الورثة‭ ‬إلى‭ ‬أمیر‭ ‬المؤمنین‭ ‬سیدنا‭ ‬عمر‭ ‬بن‭ ‬الخطاب‭ ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنه‭ ‬فقضى‭ ‬بینھما‭ ‬بالشركة‭ ‬نصفین‭ ‬فأخذت‭ ‬حبیبة‭ ‬النصف،‭ ‬والربع‭ ‬من‭ ‬نصیب‭ ‬الزوج‭ ‬بالمیراث‭ ‬لأنه‭ ‬لم‭ ‬یترك‭ ‬ولدا‭.‬

هذه‭ ‬النازلة‭ ‬لم‭ ‬تشتهر‭ ‬كغيرها‭ ‬من‭ ‬النوازل‭ ‬التي‭ ‬أبدع‭ ‬فيها‭ ‬الخليفة‭ ‬عمر‭ ‬ض،‭ ‬فهل‭ ‬فقط‭ ‬لكونها‭ ‬نازلة‭ ‬تصب‭ ‬لصالح‭ ‬المرأة،‭ ‬جاءت‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬غارق‭ ‬في‭ ‬ذكوريته‭ ‬الثقافية‭ ‬بل‭ ‬وظل‭ ‬كذلك‭ ‬لقرون‭ ‬طويلة،‭ ‬لم‭ ‬يتخلص‭ ‬فيها‭ ‬الرجل‭ ‬كما‭ ‬يجب‭ ‬من‭ ‬معتقداته‭ ‬القديمة‭ ‬السابقة‭ ‬على‭ ‬الإسلام‭ ‬ونظرته‭ ‬الدونية‭ ‬للنصف‭ ‬الآخر‭ ‬من‭ ‬المجتمع‭ ‬وهوما‭ ‬جعله‭ ‬يسكت‭ ‬عنها‭ ‬كما‭ ‬حاول‭ ‬السكوت‭ ‬سابقا‭ ‬على‭ ‬آيات‭ ‬الإرث‭ ‬كلها‭ ‬حسبما‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬أخبار‭ ‬نزولها؟

ما‭ ‬الذي‭ ‬جعل‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الفقهاء،‭ ‬خصوصا‭ ‬المغاربة‭ ‬منهم،‭ ‬يشككون‭ ‬في‭ ‬صحة‭ ‬هذه‭ ‬الواقعة‭ ‬ومشروعيتها‭ ‬ويعتبرونها‮ «‬تحريفا‭ ‬للشريعة‮»‬‭‬ و‮ «‬خرقا‭ ‬لفرائض‭ ‬الله‭ ‬التي‭ ‬قسمها‭ ‬بنفسه‮» ‬‭‬و ‮«‬تعطيلا‭ ‬لقواعد‭ ‬الإرث‮»‬‭‬ و‮ «‬تحايلا‭ ‬فقهيا‭ ‬على‭ ‬قاعدة‭ ‬لا‭ ‬اجتهاد‭ ‬مع‭ ‬النص»،‭ ‬بل‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬وَسَمَ‭ ‬أحد‭ ‬الباحثين‭ ‬المعاصرين‭ ‬حق‭ ‬المرأة‭ ‬هذا،‭ ‬الذي‭ ‬أطلق‭ ‬عليه‭ ‬الفقهاء‭ ‬المغاربة‭ ‬لاحقا ‭‬‮«‬حق‭ ‬الكد‭ ‬والسعاية‮» ‬‭‬بكونه‭‬‮ «‬عرف‭ ‬ذي‭ ‬طابع‭ ‬علمان‮»‬،‭ ‬أي‭ ‬وضعي‭ ‬لا‭ ‬يمت‭ ‬الى‭ ‬الشريعة‭ ‬الاسلامية‭ ‬بأية‭ ‬صلة‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬أنه ‭‬‮«‬أمر‭ ‬قديم‭ ‬قُضِيَ‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬صدر‭ ‬الإسلام‮» ‬‭‬حسبما‭ ‬أوضحه‭ ‬فقيه‭ ‬مغربي‭ ‬آخر‭.‬‮ ‬

الواقع‭ ‬أنه‭ ‬بغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬التسمية‭ ‬التي‭ ‬أُطلِقت‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الحق،‭ ‬وبغض‭ ‬النظر‭ ‬عما‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬عمل‭ ‬الصحابي‭ ‬يعد‭ ‬حجة‭ ‬أولا،‭ ‬وبغض‭ ‬النظر‭ ‬كذلك‭ ‬عن‭ ‬مختلف‭ ‬محاولات‭ ‬التكييف‭ ‬التي‭ ‬حاول‭ ‬الفقهاء‭ ‬إِصباغها‭ ‬على‭ ‬حق‭ ‬الكد‭ ‬والسعاية‭ ‬هذا‭ ‬كاعتباره‭ ‬مثلا‭ ‬عقد‭ ‬إجارة‭ ‬الخدمة‭ ‬أو حق‭ ‬عرفي‭ ‬إسلامي‭ ‬أو أنه‭ ‬يتعين‭ ‬تطبيق‭ ‬قواعد‭ ‬الملكية‭ ‬الشائعة‭ ‬عليه،‭ ‬وهذه‭ ‬كلها‭ ‬مُسَميات‭ ‬ومصطلحات‭ ‬مُحْدَثة‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يعرفها‭ ‬الخليفة‭ ‬عمر،‭ ‬فإن‭ ‬الأخير‭ ‬رضوان‭ ‬الله‭ ‬عليه،‭ ‬رأى‭ ‬فقط‭ ‬وبكل‭ ‬بساطة،‭ ‬أنه‭ ‬ليس‭ ‬عدلا‭ ‬وإنصافا‭ ‬أن‭ ‬يُثرِيَ‭ ‬ويَتَموّل‭ ‬أغيار‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬عمل‭ ‬وكد‭ ‬المرأة‭ ‬المسماة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬النازلة‭ ‬حبيبة‭ ‬بنت‭ ‬زريق،‭  ‬إذ‭ ‬كان‭ ‬سيكون‭ ‬ظلما‭ ‬لها‭ ‬واضرارا‭ ‬بها‭ ‬وتعسفا‭ ‬عليها‭ ‬لو تم‭ ‬حرمانها‭ ‬من‭ ‬ثروة‭ ‬جمعتها‭ ‬بعرق‭ ‬جبينها،‭ ‬فما‭ ‬كان‭ ‬منه‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬استبعد‭ ‬قسمة‭ ‬الإرث‭ ‬الحرفية‭ ‬ويُعَدلها‭ ‬بقسمة‭ ‬أخرى‭ ‬موضوعية‭ ‬وعادلة،‭ ‬لأن‭ ‬العدل،‭ ‬كمفهوم‭ ‬معنوي‭ ‬كلي،‭ ‬هوما‭ ‬تحض‭ ‬عليه‭ ‬الشريعة‭ ‬في‭ ‬كلياتها‭ ‬ومبادئها‭ ‬الاخلاقية‭ ‬العامة،‭ ‬فكما‭ ‬كان‭ ‬يقول‭ ‬سابقا‭ ‬الامام‭ ‬ابن‭ ‬عقيل‭‬‮ : «‬أي‭ ‬طريق‭ ‬استُخرِجَ‭ ‬به‭ ‬العدل‭ ‬والقسط‭ ‬فهومن‭ ‬الدين‭ ‬وليس‭ ‬مخالف‭ ‬له،‭ ‬وإن‭ ‬أمارات‭ ‬العدل‭ ‬إذا‭ ‬ظهرت‭ ‬بأي‭ ‬طريق‭ ‬كان،‭ ‬فهناك‭ ‬شرع‭ ‬الله‭ ‬ودينه‮»‬‭‬.

فاجتهاد‭ ‬عمر‭ ‬ض‭ ‬جرى‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬النازلة‭ ‬وفق‭ ‬ما‭ ‬يقتضيه‭ ‬المنطق‭ ‬والحس‭ ‬السليمين‭ ‬اللذان‭ ‬فرضا‭  ‬نفسهما‭ ‬كواقع‭ ‬يقتضيه‭ ‬كل‭ ‬ضمير‭ ‬عادل،‭ ‬بحيث‭ ‬كان‭ ‬بإمكان‭ ‬أي‭ ‬شخص‭ ‬عاقل‭ ‬وفاضل‭ ‬ذي‭ ‬ضمير‭ ‬متزن‭ ‬ومتيقظ،‭  ‬عرضت‭ ‬عليه‭ ‬هذه‭ ‬النازلة‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬أن‭ ‬يفصل‭ ‬فيها‭ ‬وفق‭ ‬ما‭ ‬فصل‭ ‬فيها‭ ‬الفاروق،‭ ‬فالشريعة‭ ‬في‭ ‬عمومها‭‬‮ «‬لا‭ ‬تنافي‭ ‬قضايا‭ ‬العقول‮» ‬‭‬و‭‬‮«‬التكاليف‭ ‬الشرعية‭ ‬ومقاصدها‭ ‬الكلية‭ ‬المتصلة‭ ‬بالضوابط‭ ‬العملية‭ ‬جارية‭ ‬بالتالي‭ ‬على‭ ‬مقتضى‭ ‬العقل‮»‬‭‬ ذلك‭ ‬أن ‭‬‮«‬الله‭ ‬ورسوله‭ ‬لم‭ ‬يخبرا‭ ‬بما‭ ‬يناقض‭ ‬صريح‭ ‬العقل‭ ‬ولم‭ ‬يشرعا‭ ‬ما‭ ‬يناقض‭ ‬الميزان‭ ‬والعدل‮» ‬‭‬ابن‭ ‬القيم‭ ‬332‭_‬2‭ ‬وكما‭ ‬يقول‭ ‬ابن‭ ‬القيم‭‬‮ «‬الشريعة‭ ‬عدل‭ ‬كلها‭ ‬ورحمة‭ ‬كلها‭ ‬ومصالح‭ ‬كلها‭ ‬وحكمة،‭ ‬فكل‭ ‬مسألة‭ ‬خرجت‭ ‬من‭ ‬العدل‭ ‬الى‭ ‬الجور‭ ‬وعن‭ ‬الرحمة‭ ‬الى‭ ‬ضدها‭ ‬وعن‭ ‬المصلحة‭ ‬الى‭ ‬المفسدة‭ ‬وعن‭ ‬الحكمة‭ ‬الى‭ ‬العبث،‭ ‬فليست‭ ‬من‭ ‬الشريعة‭ ‬وإن‭ ‬أدخلت‭ ‬فيها‭ ‬بالتأويل‭…‬‮»‬‭ ‬ابن‭ ‬القيم‭ ‬14-2‭. ‬

الواقع‭ ‬أن‭ ‬الخليفة‭ ‬عمر‭ ‬انطلق‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬النازلة،‭ ‬وفي‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬نوازل‭ ‬اجتهاداته‭ ‬المشهورة،‭ ‬من‭ ‬مبدأ‭ ‬مفاده‭ ‬أن‭ ‬طرق‭ ‬الحكم‭  ‬بالعدل‭ ‬أوسع‭ ‬من‭ ‬حروف‭ ‬الأحكام‭ ‬التشريعية‭ ‬المفروضة‭ ‬التطبيق،‭ ‬فقد‭ ‬اعتبر‭ ‬أن‭ ‬قسمة‭ ‬الإرث‭ ‬كما‭ ‬أوردها‭ ‬النص‭ ‬القرآني،‭  ‬ليست‭ ‬معيارا‭ ‬دائما‭ ‬ولا‭ ‬نهائيا‭ ‬للعدل‭ ‬والذي‭ ‬هوحكم‭ ‬كلي‭ ‬ومقصد‭ ‬أزلي‭ ‬ثابت‭ ‬تتمحور‭ ‬حوله‭ ‬الشريعة‭ ‬وتبنى‭ ‬عليه‭ ‬جميع‭ ‬الأحكام‭ ‬والاجتهادات،‭ ‬لقد‭ ‬تبين‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬التطبيق‭ ‬الحرفي‭ ‬لهذا‭ ‬النص‭ ‬أو لهذا‭ ‬الأمر‭ ‬الجزئي‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الواقعة‭ ‬لا‭ ‬يحقق‭ ‬مقصد‭ ‬العدل‭ ‬الذي‭ ‬تروم‭ ‬الشريعة‭ ‬اليه‭ ‬بل‭ ‬بالعكس‭ ‬تخرمه،‭ ‬فما‭ ‬كان‭ ‬منه‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬حكم‭ ‬وفق‭ ‬ما‭ ‬تقتضيه‭ ‬معايير‭ ‬العدالة‭ ‬لا‭ ‬ما‭ ‬تفرضه‭ ‬حروف‭ ‬النصوص‭ ‬الجزئية‭.‬

وبلغتنا‭ ‬القانونية‭ ‬المعاصرة،‭ ‬انطلق‭ ‬عمر‭ ‬من‭ ‬الفكرة‭ ‬القائلة‭ ‬بأن ‭‬‮«‬مفهوم‭ ‬العدل‭ ‬أوسع‭ ‬من‭ ‬مفهوم‭ ‬القانون‮»‬،‭ ‬فالعدل‭ ‬كمفهوم‭ ‬ذهني‭ ‬أو كفكرة‭ ‬نظام‭ ‬عقلاني‭ ‬ومتماسك،‭  ‬تجعله‭ ‬يعمل‭ ‬كمبدأ‭ ‬أصولي‭ ‬أو إجرائي‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬هو‭ ‬جوهر‭ ‬أو نصوص‭ ‬قانونية‭ ‬مفصلة‭. ‬صحيح‭ ‬أن‭ ‬المعيار‭ ‬الوحيد‭ ‬للعدل‭ ‬يكون‭ ‬عادة‭ ‬هو القانون‭ ‬ذاته،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬هوبز‭‬‮ «‬بحيث‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬قاعدة‭ ‬يضعها‭ ‬القانون‭ ‬يجب‭ ‬كأمر‭ ‬واقع‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬عادلة‭ ‬في‭ ‬ذاتها‮»‬‭‬ لكن‭ ‬التمسك‭ ‬دائما‭ ‬بحرفية‭ ‬النصوص،‭ ‬كثيرا‭ ‬ما‭ ‬يؤدي‭ ‬الى‭ ‬الوقوع‭ ‬والحكم‭ ‬بالظلم،‭ ‬وقديما‭ ‬عبر‭ ‬السيد‭ ‬المسيح‭ ‬عليه‭ ‬السلام‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الواقع‭ ‬منتقدا‭ ‬أولئك‭ ‬المنافقين‭ ‬من‭ ‬رجال‭ ‬القانون‭ ‬قائلا‭ ‬لهم‭‬‮ «‬سحقا‭ ‬لكم‭ ‬يا‭ ‬رجال‭ ‬القانون‭ ‬لأنكم‭  ‬تتشبثون‭ ‬بالتطبيق‭ ‬الحرفي‭ ‬والتقني‭ ‬للقانون‭ ‬فيما‭ ‬لا‭ ‬تعيرون‭ ‬أي‭ ‬اهتمام‭ ‬للأمور‭ ‬الأكثر‭ ‬أهمية‭ ‬له‭ ‬وهي‭ ‬العدالة‭ ‬والرحمة‭ ‬والإخلاص‮»‬،‭ ‬لذلك‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الضروري‭ ‬التخفيف‭ ‬من‭ ‬حدة‭ ‬النصوص‭ ‬القانونية‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬فكرة‭ ‬الإنصاف‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬أرسطو والاستنجاد‭ ‬بروحها‭ ‬لتطوير‭ ‬النص‭ ‬الحرفي‭ ‬الجامد‭ ‬له‭ ‬بشكل‭ ‬يجعله‭ ‬أكثر‭ ‬عدلا‭ ‬وانسانية‭…‬

من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى،‭ ‬جاء‭ ‬هذا‭ ‬الاجتهاد‭ ‬المبكر‭  ‬للخليفة‭ ‬عمر‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬فيه‭ ‬تعقيدات‭ ‬استنباط‭ ‬الحكم‭ ‬الشرعي‭ ‬قد‭ ‬ظهرت‭ ‬بعد،‭ ‬فمعلوم‭ ‬أن‭ ‬علم‭ ‬أصول‭ ‬الفقه‭  ‬والذي‭ ‬هو عبارة‭ ‬عن‭ ‬قانون‭ ‬كلي‭ ‬يرجع‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬معرفة‭ ‬أدلة‭ ‬الشريعة‭ ‬وترجيحاتها‭ ‬لاستنباط‭ ‬الأحكام‭ ‬الشرعية‭ ‬منها‭ ‬والاجتهاد‭ ‬في‭ ‬النوازل‭ ‬والقضايا‭ ‬الطارئة‭ ‬وفقها،‭ ‬لم‭ ‬تظهر‭ ‬الا‭ ‬مع‭ ‬الامام‭ ‬الشافعي‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الثالث‭ ‬الهجري،‭ ‬بحيث‭  ‬رام‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬وضعه‭ ‬توضيح‭ ‬القواعد‭ ‬والضوابط‭ ‬الكفيلة‭ ‬بالفهم‭ ‬عن‭ ‬النص‭ ‬والفقه‭ ‬فيه‭ ‬وكذلك‭ ‬تجاوز‭ ‬الاختلاف‭ ‬وضبط‭ ‬التأويل‭ ‬ومحاولة‭ ‬توحيد‭ ‬الرؤية‭ ‬والوسائل‭ ‬الناجعة‭ ‬والمشروعة‭ ‬لأجل‭ ‬ذلك‭ (‬ص472‭ ‬ اشكالية‭ ‬السلطة‭ ‬العلمية‭ ‬في‭ ‬الإسلام‭ ‬للدكتور‭ ‬عبد‭ ‬المجيد‭ ‬الصغير،‭) ‬‭‬أما‭ ‬قبل‭ ‬الشافعي‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬الناس‭ ‬يتكلمون‭ ‬فيها‭ ‬ويستدلون‭ ‬دون‭ ‬ان‭ ‬يكون‭ ‬لهم‭ ‬قانون‭ ‬كلي‭ ‬يضبط‭ ‬ذلك‭. ‬فالاجتهاد‭ ‬اتخذ‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الأزمنة‭ ‬طابعا‭ ‬عمليا‭ ‬لا‭ ‬نظريا‭ . (‬(نقد‭ ‬العقل‭ ‬العربي‭ ‬للدكتور‭ ‬محمد‭ ‬عابد‭ ‬الجابري)‭.‬

ما‭ ‬أود‭ ‬أن‭ ‬أوضحه‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬النقطة‭ ‬هوأن‭ ‬اجتهاد‭ ‬عمر‭ ‬جاء‭ ‬دون‭ ‬المرور‭ ‬بهذه‭ ‬المسطرة‭ ‬التي‭ ‬ابتكرها‭ ‬الإمام‭ ‬الشافعي‭ ‬لاحقا‭ ‬وعمق‭ ‬مباحثها‭ ‬اللغوية‭ ‬الأصوليون‭ ‬بعده‭ ‬حتى‭ ‬صارت‭ ‬هذه‭ ‬المباحث‭ ‬أغلب‭ ‬ما‭ ‬صنف‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العلم‭. ‬فهذه‭ ‬‮«‬الصناعة‭ ‬الموسومة‭ ‬بصناعة‭ ‬الفقه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬الصحابة‭ ‬محتاجين‭ ‬إليها‮»‬‭‬ و ‭‬‮«‬لم‭ ‬يبلغنا‭ ‬عنهم‭ ‬الخوض‭ ‬فيها‭…‬كما‭ ‬لم‭ ‬يأت‭ ‬ذلك‭ ‬عن‭ ‬صاحب‭ ‬الشريعة‮» لأنه ‬‮«‬عليه‭ ‬الصلاة‭ ‬والسلام‭ ‬كان‭ ‬ينهى‭ ‬عن‭ ‬التعمق‭ ‬والتكلف‭ ‬والدخول‭ ‬تحت‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يطاق‭ ‬حمله‭ ‬لأن‭ ‬هذا‭ ‬كله‭ ‬أقرب‭ ‬الى‭ ‬الانقياد‭ ‬وأسهل‭ ‬في‭ ‬التشريع‭ ‬للجمهور‮». ‬‭‬وعلى‭ ‬هذا‭ ‬المنوال‭ ‬جرت‭ ‬اجتهادات‭ ‬الصحابة‭ ‬و ‭‬‮«‬السلف‭ ‬الصالح‭ ‬في‭ ‬بث‭ ‬الشريعة‭ ‬للمؤلف‭ ‬والمخالف،‭ ‬ومن‭ ‬نظر‭ ‬في‭ ‬استدلالهم‭ ‬على‭ ‬إثبات‭ ‬الأحكام‭ ‬التكليفية،‭ ‬علم‭ ‬أنهم‭ ‬قصدوا‭ ‬أيسر‭ ‬الطرق‭ ‬وأقربها‭ ‬الى‭ ‬عقول‭ ‬الطالبين‭ ‬لكن‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬ترتيب‭ ‬متكلف‭ ‬ولا‭ ‬نظم‭ ‬مؤلف‮»‬‭‬ فجاءت‭ ‬اجتهاداتهم‭ ‬نتيجة‭ ‬لذلك ‭‬‮«‬قريبة‭ ‬المأخذ،‭ ‬سهلة‭ ‬الملتمس‮»‬،‭ ‬أما‭ ‬لوافترضنا ‭‬‮«‬أن‭ ‬عرضت‭ ‬قضايا‭ ‬ومصطلحات‭ ‬علم‭ ‬الأصول،‭ ‬ومفاهيمه‭ ‬المتداولة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تخلو من‭ ‬الغموض‭ ‬والتعقيد،‭ ‬مثل‭ ‬الجمع‭ ‬والفرق‭ ‬والنقض‭ ‬والمنع‭ ‬والقلب‭ ‬وفساد‭ ‬الوضع،‭ ‬على‭ ‬أصحاب‭ ‬رسول‭ ‬الله،‭ ‬لتعبوا‭ ‬في‭ ‬فهمها‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬لهم‭ ‬عهد‭ ‬بها‮»‬‭‬.

إن‭ ‬هذا‭ ‬الاجتهاد‭ ‬أو الفهم‭ ‬المتجاوز‭ ‬لحرفية‭ ‬نص‭ ‬صريح‭ ‬واضح‭ ‬الصيغة‭ ‬والدلالة‭ ‬والصادر‭ ‬عن‭ ‬صحابي‭ ‬كان‭ ‬القرآن‭ ‬ينزل‭ ‬وفق‭ ‬رأيه‭ ‬وقيل‭ ‬عنه‭ ‬أنه‭ ‬ذهب‭ ‬بتسعة‭ ‬أعشار‭ ‬العلم‭ ‬فكان‭ ‬الفقهاء‭ ‬عنده‭ ‬مثل‭ ‬الصبيان‭ ‬(اعلام‭ ‬ج1 ص 15‭-‬18‬)،‬ لا‭ ‬يمكن‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬استيعابه‭ ‬أكثر ومن‭ ‬ثم‭ ‬الاحاطة‭ ‬بأسرار‭ ‬تجاوزه‭ ‬لنص‭ ‬صريح‭ ‬واضح‭ ‬الصيغة‭ ‬والدلالة‭ ‬الحرفية‭ ‬ومجاراته‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬للشريعة‭ ‬الا‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬قراءة‭ ‬متانية‭ ‬لرسالته‭ ‬في‭ ‬القضاء‭ ‬التي‭ ‬وجهها‭ ‬الى‭ ‬أبي‭ ‬موسى‭ ‬الشعري‭ ‬والتي‭ ‬ضمنها‭ ‬أسلوب‭ ‬اجتهاده‭ ‬وفق‭ ‬الشريعة‭ ‬التي‭ ‬شاهدها‭ ‬وهي‭ ‬تنزل‭ ‬فعرف‭ ‬تأويلها‭ ‬وفهم‭ ‬مقاصد‭ ‬الرسول‭ ‬وما‭ ‬أراد،‭ ‬اذ‭ ‬وحسب‭ ‬شرح‭ ‬هذه‭ ‬الرسالة‭ ‬من‭ ‬أحد‭ ‬أكابر‭ ‬الأئمة‭ ‬وهوالامام‭ ‬ابن‭ ‬القيم‭ ‬الجوزية،‭ ‬فإن‭ ‬المفتي‭ ‬أو الحاكم‭ ‬لا‭ ‬يتمكن‭ ‬من‭ ‬الحق‭ ‬إلا‭ ‬بنوعين‭ ‬من‭ ‬الفهم‭‬‮ «‬أوله‭ ‬فهم‭ ‬الواقع‭ ‬والفقه‭ ‬فيه‭ ‬واستنباط‭ ‬علم‭ ‬حقيقة‭ ‬ما‭ ‬وقع‭ ‬بالقرائن‭ ‬والأمارات‭ ‬والعلامات‭ ‬حتى‭ ‬يحيط‭ ‬به‭ ‬علما،‭ ‬أما‭ ‬ثانيه‭ ‬فهوفهم‭ ‬الواجب‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬وهوفهم‭ ‬حكم‭ ‬الله‭ ‬اللذي‭ ‬حكم‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬أوعلى‭ ‬لسان‭ ‬قوله‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الواقع‭ ‬ثم‭ ‬يطبق‭ ‬أحدهما‭ ‬على‭ ‬الآخر‮».‬‭‬

ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يستشف‭ ‬من‭ ‬أسلوب‭ ‬عمر‭ ‬في‭ ‬الاجتهاد‭ ‬وتجاوزه‭ ‬في‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأحيان‭ ‬لحرفية‭ ‬النص، ‭‬‮«‬على‭ ‬اعتبار‭ ‬أن‭ ‬الشريعة‭ ‬لم‭ ‬تنص‭ ‬على‭ ‬حكم‭ ‬كل‭ ‬جزئية‭ ‬على‭ ‬حدتها‮»‬،‭ ‬هو أخذه‭ ‬عموما‭ ‬بما‭ ‬يتطلبه‭ ‬الحكم‭ ‬بالعدل‭ ‬كأحد‭ ‬الكليات‭ ‬والمثل‭ ‬الأخلاقية‭ ‬الكبرى‭ ‬للشريعة‭ ‬وانصاف‭ ‬كل‭ ‬طرف‭ ‬متنازع‭ ‬وفق‭ ‬ما‭ ‬يقتضيه‭ ‬ذلك‭ ‬وكل‭ ‬هذا‭ ‬بعد‭ ‬فهمه‭ ‬فهما‭ ‬جيدا‭ ‬وقائع‭  ‬النوازل‭ ‬المستجدة‭ ‬التي‭ ‬طرأت‭ ‬عليه‭ ‬والتمييز‭ ‬فيها‭ ‬بنظره‭ ‬العقلي‭ ‬وتجربته‭ ‬المجتمعية‭ ‬التي‭ ‬اكتسبها‭ ‬من‭ ‬انتماءه‭ ‬ثقافيا‭ ‬وذهنيا‭ ‬وعاداتيا‭ ‬لذات‭ ‬المجتمع،‭  ‬بين‭ ‬المدعي‭ ‬بالحق‭ ‬والمدعي‭ ‬بالباطل‭ ‬ولوفي‭ ‬صورة‭ ‬الحق‭ ‬وذلك ‭‬‮«‬بحسب‭ ‬كل‭ ‬مقام‭ ‬وعلى‭ ‬ما‭ ‬تعطيه‭ ‬شواهد‭ ‬الأحوال‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬موضع،‭ ‬لا‭ ‬على‭ ‬وزان‭ ‬واحد‭ ‬ولا‭ ‬على‭ ‬حكم‭ ‬واحد‮».‬‭‬ وعلى‭ ‬هذا‭ ‬الأساس‭ ‬جاء‭ ‬الغاؤه‭ ‬لسهم‭ ‬المؤلفة‭ ‬قلوبهم‭ ‬رغم‭ ‬النص‭ ‬عليه‭ ‬بصيغة‭ ‬آمرة‭ ‬في‭ ‬الخطاب‭ ‬القرآني‭ ‬وذلك‭ ‬بحجة‭ ‬ارتفاع‭ ‬الغاية‭ ‬والمقصد‭ ‬الشرعيين‭ ‬من‭ ‬وضعه‭ ‬وكذلك‭ ‬لما‭ ‬كان‭ ‬سيؤدي‭ ‬اليه‭ ‬من‭ ‬اثراء‭ ‬للغير‭ ‬بلاسبب‭ ‬وبدون‭ ‬وجه‭ ‬حق‭ ‬وهوما‭ ‬عده‭ ‬آنذاك‭ ‬استنزافا‭ ‬غير‭ ‬مبرر‭ ‬لبيت‭ ‬مال‭ ‬المسلمين‭ ‬وظلما‭ ‬لمن‭ ‬هوأحوج‭ ‬منه‭ ‬من‭ ‬فقراءهم‭ ‬ومساكينهم‭.‬

البساطة‭ ‬وعدم‭ ‬التكلف‭ ‬والنظر‭ ‬العقلي‭ ‬ومراعاة‭ ‬العوائد‭ ‬والأعراف‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬والثقافية‭  ‬التي‭‬‮ «‬يفصح‭ ‬نظم‭ ‬القرآن‭ ‬وروحه‭ ‬العامة‭ ‬على‭ ‬قبولها‮»‬‭‬ وتنزيل‭ ‬الكليات‭ ‬الأخلاقية‭ ‬المكية‭ ‬عليها‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬تسعف‭ ‬الأحكام‭ ‬الجزئية‭ ‬او‭ ‬أدى‭ ‬تطبيق‭ ‬هذه‭ ‬الأحكام‭ ‬الى‭ ‬احداث‭ ‬ضرر‭ ‬بالمكلفين‭ ‬أو خرق‭ ‬مبدأ‭ ‬العدل،‭ ‬هي‭ ‬السمات‭ ‬البارزة‭ ‬التي‭ ‬طبعت‭ ‬عملية‭ ‬اجتهادات‭ ‬الصحابة‭ ‬وتشريعاتهم‭ ‬خلال‭ ‬الصدر‭ ‬الأول‭ ‬للإسلام،‭ ‬ذلك‭ ‬أنه‭‬‮ «‬مع‭ ‬غلبة‭ ‬الاتجاه‭ ‬الخلقي‭ ‬على‭ ‬التشريعات‭ ‬القرآنية‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬السمة‮» ‬‭‬وهو الواقع‭ ‬الذي‭ ‬أكده‭ ‬الإمام‭ ‬الشاطبي‭ ‬غير‭ ‬ما‭ ‬مرة،‭ ‬ومع‭ ‬قلة‭ ‬وتناهي‭ ‬الأحكام‭ ‬الشرعية‭ ‬التي‭‬‮ «‬اختصت‭ ‬بالموضوعات‭ ‬القانونية‭ ‬البحتة‮»‬‭‬ بدا ‭‬‮«‬ما‭ ‬قدمته‭ ‬نصوص‭ ‬القرآن‭ ‬من‭ ‬أحكام‭ ‬وقواعد‮»‬‭‬ إنما‭ ‬تمثل‭ ‬في‭ ‬البناء‭ ‬التشريعي‭ ‬نقطة‭ ‬الانطلاق‭ ‬الذي‭ ‬أكملته‭ ‬جهود‭ ‬الأجيال‭ ‬المتتابعة‭ ‬من‭ ‬المسلمين ‭ ‬‮«‬فمعظم‭ ‬المفاهيم‭ ‬الأساسية‭ ‬والحيوية‭ ‬التي‭ ‬يقوم‭ ‬عليها‭ ‬أي‭ ‬مجتمع‭ ‬متحضر‭ ‬عبر‭ ‬عنها‭ ‬القرآن‭ ‬فيما‭ ‬يشبه‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الزاما‭ ‬خلقيا‭ ‬فقط‭. ‬فالرحمة‭ ‬بالضعاف‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬ونفي‭ ‬الغبن‭ ‬في‭ ‬المعاملات‭ ‬التجارية‭ ‬وعدم‭ ‬الميل‭ ‬والحيف‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬العدالة‭… ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬المفاهيم‭ ‬ترد‭ ‬في‭ ‬القرآن‭ ‬باعتبارها‭ ‬معايير‭ ‬السلوك‭ ‬المطلوبة،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تترجم‭ ‬الى‭ ‬بناء‭ ‬قانوني‭ ‬للحقوق‭ ‬والواجبات‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬نوع‮». ‬‭‬فمثلا‭ ‬نص‭ ‬القرآن‭ ‬على‭ ‬تحريم‭ ‬الخمر‭ ‬لكن‭‬‮ «‬دون‭ ‬أن‭ ‬يتضمن‭ ‬اشارة‭ ‬الى‭ ‬النتائج‭ ‬القانونية‭ ‬العملية‭ ‬لهذا‭ ‬التحريم‮»‬‭‬ غير‭ ‬أن‭ ‬الذي‭ ‬حدث‭ ‬هوانه‭ ‬مع‭ ‬استفحال‭ ‬ظاهرة‭ ‬شربه‭ ‬وما‭ ‬يترتب‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬مضار‭ ‬اجتماعية،‭ ‬ومع‭ ‬عدم‭ ‬إسعاف‭ ‬تحريمه‭ ‬دينيا‭ ‬خلقيا‭ ‬فقط،‭ ‬فقد‭ ‬اعتبره‭ ‬الصحابة‭ ‬جريمة‭ ‬يجب‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬عقاب‭ ‬مادي‭ ‬لها‭ ‬تم‭ ‬تقديره‭ ‬في‭ ‬البداية‭ ‬بأربعين‭ ‬جلدة‭  ‬ثم‭ ‬ما‭ ‬لبثت‭ ‬أن‭ ‬ارتفعت‭ ‬عقوبتها‭ ‬الى‭ ‬ثمانين‭ ‬مع‭ ‬اشتداد‭ ‬استفحالها‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬الخليفة‭ ‬عمر‭. ‬

هي‭ ‬موضوعات‭ ‬كثيرة‭ ‬لم‭ ‬يتعرض‭ ‬لها‭ ‬القرآن‭ ‬واجهت‭ ‬الصحابة‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬الأمر،‭ ‬حتمت‭ ‬عليهم‭ ‬التدخل‭ ‬ووضع‭ ‬حلول‭ ‬تشريعية‭ ‬جزئية‭ ‬لها،‭ ‬فعلى‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬وفي‭ ‬نازلة‭ ‬ارثية‭ ‬لم‭ ‬يتعرض‭ ‬لها‭ ‬النص‭ ‬القرآني‭ ‬وهي‭ ‬المشهورة‭ ‬ب‭‬‮«‬المسألة‭ ‬الحمارية‮»‬،‭ ‬لم‭ ‬يجد‭ ‬الخليفة‭ ‬عمر‭ ‬بدا‭ ‬من‭ ‬الاقتناع‭ ‬باحتجاج‭ ‬الأخوين‭ ‬الشقيقين‭ ‬للهالكة‭ ‬باشراكهما‭ ‬في‭ ‬الثلث‭ ‬مع‭ ‬الأخوين‭ ‬للأم،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كان‭ ‬رأيه‭ ‬قد‭ ‬استقر‭ ‬على‭ ‬حرمانهما‭ ‬منه‭.‬ ان‭ ‬هذه‭ ‬الواقعة‭ ‬تبين‭ ‬بساطة‭ ‬العملية‭ ‬التشريعية‭ ‬آنذاك‭ ‬بحيث‭ ‬أنها‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬‮«‬لم‭ ‬تكن‭ ‬امتيازا‭ ‬لجهة‭ ‬رسمية‭ ‬معينة‭‬‮ «‬بل‭ ‬كان‭ ‬باستطاعة‭ ‬أي‭ ‬كان‭ ‬أن‭ ‬يدلي‭ ‬بوجهة‭ ‬نظره‭ ‬شريطة‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬منطقية‭ ‬ومقبولة‭ ‬اجتماعيا،‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬ضرورة‭ ‬تماهيها‭ ‬مع‭ ‬معايير‭ ‬العدالة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والأخلاق‭ ‬الكريمة‭ ‬التي‭ ‬بشر‭ ‬بها‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم،‭ ‬ولعل‭ ‬واقعة‭ ‬تلك‭ ‬المراة‭ ‬البسيطة‭ ‬التي‭ ‬أخذ‭ ‬عمر‭ ‬برأيها‭ ‬متراجعا‭ ‬عن‭ ‬رأيه‭ ‬عندما‭ ‬احتجت‭ ‬عليه‭ ‬على‭ ‬عزمه‭ ‬وضع‭ ‬سقف‭ ‬مالي‭ ‬معين‭ ‬للصداق،‭ ‬تدل‭ ‬أيضا‭ ‬على‭ ‬ذلك‭.‬ فمثل‭ ‬هذه‭ ‬الموضوعات‭ ‬التي‭ ‬سكت‭ ‬عنها‭ ‬النص‭ ‬القرآني‭ ‬والتي‭ ‬واجهت‭ ‬الصحابة‭ ‬بعد‭ ‬وفاة‭ ‬الرسول‭ ‬ص،‭ ‬ودفعتهم‭ ‬اما‭ ‬للتدخل‭ ‬وإيجاد‭ ‬أحكام‭ ‬وتدابير‭ ‬جديدة‭ ‬ملائمة‭ ‬لها،‭ ‬أو جعلتهم‭ ‬يوقفون‭ ‬العمل‭ ‬ببعض‭ ‬الأحكام‭ ‬الجزئية‭ ‬رغم‭ ‬النص‭ ‬عليها‭ ‬بشكل‭ ‬صريح‭ ‬في‭ ‬الخطاب‭ ‬القرآني‭ ‬أو بإلغائها‭ ‬أو تعديلها،‭ ‬جاءت‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬حديث‭ ‬الرسول‭ ‬صلى الله عليه وسلم‭ ‬قد‭ ‬جمع‭ ‬بعد‭ ‬ولا‭ ‬نظرية‭ ‬الإمام‭ ‬الشافعي‭ ‬ومسطرته‭ ‬في‭ ‬استنباط‭ ‬الحكم‭ ‬الشرعي‭ ‬قد‭ ‬ظهرت‭. ‬انها‭ ‬فقط‭ ‬اجتهادات‭ ‬تأسست‭ ‬على ‭‬‮«‬مبادئ‭ ‬القرآن‭ ‬التشريعية‮»‬‭‬ الأخلاقية‭ ‬الكلية‭ ‬بشكل‭ ‬أساسي‭ ‬وعلى‭‬‮ «‬الإحساس‭ ‬العام‭ ‬والمواضعات‭ ‬المألوفة‮» ‬‭‬لذلك‭ ‬المجتمع‭ ‬الذي‭ ‬صدرت‭ ‬فيه،‭ ‬فالصحابة،‭ ‬كما‭ ‬سبق‭ ‬أن‭ ‬وصفهم‭ ‬أحد‭ ‬كبار‭ ‬الأئمة،‭ ‬كانت‭ ‬أفهامهم‭ ‬فوق‭ ‬أفهام‭ ‬جميع‭ ‬الأمة،‭ ‬وعلمهم‭ ‬بمقاصد‭ ‬نبيهم‭ ‬ص‭ ‬وقواعد‭ ‬دينه‭ ‬وشرعه‭ ‬أتم‭ ‬من‭ ‬علم‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬جاء‭ ‬بعدهم،‭ ‬فقد‭ ‬كانوا‭ ‬أقل‭ ‬الناس‭ ‬تكلفا‭ ‬في‭ ‬التشريع،‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬يرتضوا‭ ‬لأنفسهم‭ ‬عبارات‭ ‬المتأخرين‭ ‬(يقصد‭ ‬المتأخرين‭ ‬من‭ ‬الفقهاء)‭ ‬،‭ ‬قصدوا‭ ‬أيسر‭ ‬الطرق‭ ‬وأقربها‭ ‬الى‭ ‬عقول‭ ‬الطالبين‭ ‬لكن‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬ترتيب‭ ‬متكلف‭ ‬ولا‭ ‬نظم‭ ‬مؤلف‮‬‭ ‬فجاءت‭ ‬اجتهاداتهم‭ ‬نتيجة‭ ‬لذلك‭‬‮ «‬قريبة‭ ‬المأخذ،‭ ‬سهلة‭ ‬الملتمس‮»‬‭‬ ولائقة‭ ‬آنذاك‭ ‬بالجمهور،‭ ‬عدلا‭ ‬ومصلحة‭……‬،‭ ‬لذلك‭ ‬كان‭ ‬أحد‭ ‬الباحثين‭ ‬الغربيين‭ ‬على‭ ‬حق‭ ‬عندما‭ ‬وصف‭ ‬بدقة‭ ‬هذه‭ ‬الفترة‭ ‬الاستثنائية‭ ‬والخالدة‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬تطور‭ ‬الفقه‭ ‬الاسلامي‭ ‬والتي‭ ‬شكلت‭ ‬محور‭ ‬اجتهاداتهم‭ ‬المشهورة‭ ‬بكونها‭ ‬فترة‭ ‬‮ ‬«تفوقت‭ ‬فيها‭ ‬العدالة‭ ‬الاسلامية‭ ‬على‭ ‬القانون‭ ‬الاسلامي‮».‬‭ ‬

‭                           ‬

‭                                                                                                                     ‬محمد‭ ‬نجيب‭ ‬البقاش